تمر أسواق النفط في مرحلة صعبة حالياً لأسباب عدة أهمها انخفاض نمو الاقتصاد الصيني والحروب التجارية بين الغرب والصين، وتباطؤ نمو الطلب على النفط في الولاياتالمتحدةوالهند، وانتهاء موسم الصيف وحرق النفط اللازم لتوليد الكهرباء لمقابلة الطلب على التبريد في الدول المنتجة، والحرب الأوكرانية والعقوبات على روسيا وهجمات الحوثيين على ناقلات النفط في البحر الأحمر. رغم الانخفاض الكبير في المعروض النفطي من دول "أوبك+" ودول خارج "أوبك+" مثل الولاياتالمتحدة والنرويج والبرازيل، وعلى رغم انخفاض المخزون التجاري العالمي من النفط، فإن أسعار النفط انخفضت، والسؤال هنا، لماذا انخفضت أسعار النفط على رغم انخفاض الإمدادات؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد توضيح أن المضاربين واللوغاريتمات لا يحددون اتجاهات أسعار النفط. اتجاهات أسعار النفط تحددها أساسيات السوق، إلا أن المضاربات واللوغاريتمات تزيد من حد التوجه، وتزيد الذبذبة حول متوسط الأسعار. بعبارة أخرى، المضاربون يبنون تصرفاتهم بناء على معلومات أو توقعات تتعلق بأساسيات السوق. وبهذا فإن التحولات الأساسية في أسعار النفط مرتبطة بأساسيات السوق، ثم يقوم المضاربون بتعظيمها وزيادة الذبذبة في الأسعار. لهذا فإن انخفاض أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة سببه أساسيات السوق كما سنرى بعد قليل، ولكن الوضع أصبح أكثر سوءاً بسبب المضاربات، سواء كان بدخول السوق أو الخروج منه. صادرات النفط لم تنخفض من قبل دول "أوبك +" فقط، ولكن انخفضت أيضاً في الولاياتالمتحدة والنرويج والبرازيل بنحو 400 ألف برميل يومياً، كما انخفضت صادرات ليبيا بنحو 400 ألف برميل يومياً، وانخفض إنتاج الولاياتالمتحدة في خليج المكسيك بنحو 700 ألف برميل يومياً بسبب إعصار فرانسين، إلا أن الشركات بدأت تعود إلى المنصات لتعيد الإنتاج إلى ما كان عليه. لماذا تستمر أسعار النفط بالانخفاض في وجه هذا الهبوط في إمدادات النفط؟ انخفضت أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة بسبب ثلاثة أسباب رئيسة هي: 1- المبالغة في توقعات الطلب على النفط وأسعار النفط في النصف الأول من العام. 2- تجاهل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والقيادات الأوروبية للعقوبات على روسياوإيران وفنزويلا. 3- رفع البنوك المركزية لأسعار الفائدة، وبخاصة البنك المركزي الأميركي، الذي يترجمه البعض حرفياً على أنه "بنك الاحتياط الفيدرالي". ..المبالغة في توقعات الطلب والأسعار توقعات نمو الطلب على النفط في الربعين الأول والثاني من قبل بعض الهيئات والمؤسسات كانت عالية، وكان أكثرها تطرفاً توقعات "أوبك"، التي قامت لاحقاً بخفض هذه التوقعات بصورة كبيرة. توقعت "أوبك" أن ينمو الطلب على النفط عام 2024 بمقدار 2.25 مليون برميل يومياً، وكان الأعلى بين كل المنظمات والبنوك والبيوت الاستشارية. لاحقاً قامت بخفض هذا المتوسط إلى مليوني برميل يومياً، وذلك من طريق خفض التوقعات للربعين الأول والثاني، بعدما رفعت التوقعات في الربع الثالث في أغسطس (آب) الماضي، وأبقت على توقعات الربعين الثالث والرابع في تقريرها الأخير. شركة "وودماك" الاستشارية توقعت أن ينمو الطلب على النفط في 2024 بمقدار 1.9 مليون برميل يومياً، وهو تقدير مرتفع. أما وكالة الطاقة الدولية فقد توقعت أن ينمو الطلب على النفط بمقدار 1.3 مليون برميل يومياً ثم خفضت ذلك مرات عدة حتى وصل إلى 900 ألف برميل يومياً في تقريرها الأخير. (تقرير وكالة الطاقة الدولية متشائم ويتجاهل النمو في أوروبا). وكان الرئيس التنفيذي لشركة "أرامكو"، أمين ناصر، قد ذكر في أحد لقاءاته أنهم يتوقعون أن يكون نمو الطلب على النفط بمتوسط مقداره 1.5 مليون برميل يومياً، وهو قد يكون أقرب إلى الواقع من غيره، بناء على متغيرات عدة منها تجارة النفط الدولية وتغيرات المخزون. وكانت "أوبك" قد توقعت أن ينمو الطلب على النفط في الصين بمقدار 580 ألف برميل يومياً، بينما توقعت وكالة الطاقة الدولية أن النمو سيكون بمقدار 600 ألف برميل يومياً. ولكن الواقع يشير إلى انخفاض الطلب على النفط في الصين. وأشار آخر تقرير لوكالة الطاقة الدولية أن الطلب على النفط في يوليو (تموز) الماضي انخفض بمقدار 280 ألف برميل يومياً مقارنة بالطلب في يوليو من العام السابق. هذا يعني أن الفرق في التقديرات نحو 800 ألف برميل يومياً! وتوقعت "أوبك" أن ينمو الطلب في الهند بمقدار 220 ألف برميل يومياً، كما توقعت وكالة الطاقة أن ينمو بمقدار 130 ألف برميل يومياً، ولكن الواقع يشير إلى أن النمو في الطلب كان أقل من ذلك بكثير، كما أن متوسط واردات النفط في الأشهر الثمانية الأولى من العام لم يتغير كثيراً عن واردات الفترة نفسها من العام الماضي.
وكان بنك "مورغان ستانلي" قد توقع أن تصل أسعار النفط إلى 90 دولاراً للبرميل في الوقت الحالي، ولكن الأسعار الحالية أقل من ذلك بنحو 18 دولاراً للبرميل. أما محللو "غولدمان ساكس" فقد توقعوا أن تكون الأسعار حالياً بحدود 88 دولاراً للبرميل، وهي أعلى من الواقع بنحو 16 دولاراً للبرميل. لهذا فإن السؤال الحالي ليس ما هو دارج الآن، لماذا انخفضت أسعار النفط؟ وإنما، لماذا كانت الأسعار مرتفعة من دون أي دعم من أساسيات السوق؟ البعض يفسرها بأثر العوامل السياسية وآخرون يفسرونها بدور المضاربات. 2- تجاهل إدارة بايدن والقيادات الأوروبية للعقوبات على روسياوإيران وفنزويلا إنتاج روسيا لم ينخفض من 3 إلى 5 ملايين برميل يومياً كما توقعت وكالة الطاقة الدولية وبعض الخبراء والسياسيين. الانخفاض كان بسيطاً جداً، والانخفاض الأخير سببه ضربات أوكرانيا للمصافي والمنشآت النفطية الروسية، وعمليات الصيانة، ومحاولة روسيا الالتزام بالإنتاج المستهدف حسب التخفيضات الطوعية المعلن عنها سابقاً. وعلى رغم تطبيق مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي للسقف السعري، فإنهم تجاهلوا العقوبات والسقف السعري حتى لا ترتفع أسعار النفط ويتم السيطرة على التضخم، كما أن إدارة بايدن لا تريد أن ترتفع أسعار النفط قبل الانتخابات الأميركية. وحقيقة الأمر أن إدارة بايدن لم تتجاهل العقوبات المفروضة على إيران وفنزويلا فقط، وإنما أسهمت بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة في زيادة إنتاج وصادرات كلا البلدين لدرجة أن إنتاجهما زاد بنحو مليون برميل يومياً، ووصلت صادرات كل منهما إلى مستويات لم نرها منذ أعوام. 3- رفع أسعار الفائدة: أسهم رفع أسعار الفائدة في انسحاب عدد من المضاربين والمستثمرين في السوق لأن الاستثمار في عقود النفط المستقبلية أو حتى تخزين النفط لم يعد مجدياً، وهذا بدوره خفض الأسعار. وعند الحديث عن العائد هنا لا بد من ذكر أنه تاريخياً وجدت علاقة عكسية بين الاستثمار في عقود النفط والعائد على أسهم شركات التقنية. فعندما ترتفع أسعار شركات التقنية بصورة كبيرة، يهاجر المضاربون إليها. والأمر نفسه ينطبق على الذهب. بعبارة أخرى، ارتفاع أسعار الفائدة مع ارتفاع أسهم شركات التقنية والذهب، أسهم في هجرة المضاربات من النفط إلى القطاعات الأخرى. لو نظرنا إلى انخفاض إمدادات النفط في الفترات الأخيرة لوجدنا أنها بحدود 1.6 مليون برميل يومياً. إلا أن انخفاض الطلب على النفط عالمياً أعلى من ذلك، وهذا يفسر انخفاض أسعار النفط. باختصار، أساسيات السوق تدعم انخفاض أسعار النفط، وإن كان انسحاب المضاربين زاد الطين بلة. وعند الحديث عن انخفاض الطلب على النفط علينا أن نقارن بين ما كان متوقعاً بما هو في أرض الواقع، وليس بما هو في أرض الواقع مقارنة بما كان عليه سابقاً. وهنا نجد أن الانخفاض في الطلب أكبر من الانخفاض في إمدادات النفط. وعند الحديث عن انسحاب المضاربين وانخفاض عدد العقود المستقبلية إلى مستويات لم نرها منذ أعوام طويلة، علينا أن نتذكر مايلي، انخفاض نمو الاقتصاد الصيني بهذه الصورة، وانخفاض الطلب على النفط يحصل للمرة الأولى منذ عقود، وهذا هو المسوغ الأساس لانخفاض عدد العقود في الأسواق المستقبلية. ..النفط في 2025 ما يهم حالياً هو سلوك العراقوالصين، على رغم أن العوامل المؤثرة كثيرة. التزام العراق بالحصص الإنتاجية والتعويض عن الزيادات السابقة فوق الإنتاج المستهدف ضروري لاستقرار السوق ومنعها من الانهيار. فإذا لم يلتزم العراق، ولنفرض أن الزيادة كانت 10 في المئة فوق ما هو متفق عليه، فإن قيام دول الخليج بزيادة الإنتاج 10 في المئة يعني انهيار السوق، فبدل أن تكون أسعار النفط في السبعينيات ستكون بالثلاثينيات. وهذا مثال مبسط يوضح الفكرة، يمكن للعراق أن يخفض صادراته إلى 3.8 مليون برميل حيث ستكون الأسعار 72 دولاراً للبرميل. هذا يعني حصول العراق على إيرادات مقدارها 273.6 مليون دولار يومياً. الخيار الآخر أن تتجاهل الحكومة العراقية "أوبك+" وتصدر 4.4 برميل يومياً، بسعر 34 دولاراً، وهذا يعطي إيرادات مقدارها 149.6 مليون دولار. باختصار، إذا أصر العراق على تجاوز الحصص الإنتاجية فإن خسائره اليومية ستكون بحدود 124 مليون دولار! وحجة من يقول أن المشكلة في توزيع الحصص وأنه يجب أن يعاد توزيع الحصص بناء على الاحتياطات والقدرة الإنتاجية والحاجة المالية، مردود على القائل لأن هذا يعني زيادة السعودية إنتاجها من 9 ملايين برميل إلى 11 مليون برميل يومياً، وهذا يعني إفلاس الحكومة العراقية! سيعقد تحالف "أوبك+" اجتماعه في الأول من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وبناء على ذلك سيتم تحديد مستويات الإنتاج في 2025، علماً أن اتفاق التخفيض الأصلي مستمر حتى نهاية 2025 على كل الحالات. وفي حال وجود ركود اقتصادي عالمي وهبوط ملحوظ في الطلب العالمي على النفط، فإنه من المتوقع أن يقوم التحالف بتخفيضات إضافية. وهنا لا بد من التنويه أن هناك فرقاً بين حال ركود اقتصادي عالمي وبين انخفاض الطلب على نفط "أوبك+"، حيث أن الخفض الإضافي في حال الركود أسهل من الحالات الأخرى. الصين بحاجة إلى عملية تحفيز مالية ضخمة، ولكن يبدو أن الحكومة الصينية أمام دائرة مفرغة، تاريخياً ركزت عمليات التحفيز على تنشيط القطاع الصناعي الذي يعتمد على التصدير. الحمائية في الدول الغربية والحروب التجارية بين الغرب والصين تركز على صادرات الصين الصناعية. لماذا تحفز قطاعاً ليس لديه سوق؟ هذا يؤدي إلى فائض وانخفاض كبير في الأسعار وإفلاس عدد من الشركات. لهذا قد تتجاهل الحكومة الصينية موضوع التحفيز وتترك الاقتصاد يعاني فترة ثم يتعافى تلقائياً وببطء، أو تتبنى عمليات تحفيز تستهدف صناعات أو قطاعات معينة. هنا تكمن أهمية الانتخابات الرئاسية الأميركية لأن العلاقة مع الصين على المحك. أي تحسن في العلاقات سيرفع الطلب على النفط. نمو الطلب على النفط في الأماكن الأخرى من العالم سيكون محدوداً، ولكن النمو الأوروبي سيعوض عن الهبوط في أماكن أخرى. لهذا يتوقع أن يكون النصف الأول من عام 2025 هو استمرار للوضع الحالي مع تحسن في النصف الثاني. أندبندنت عربية