بعد كل حدث جلل أو عاصفة هوجاء تضرب العالم العربي، يدور جدل بيزنطي حول ما يسمى «نظرية المؤامرة». وتذهب التحليلات بعيداً في شأن المسؤولية المباشرة للقوى الأجنبية عن التخطيط والتحريض والتنفيذ لجني الثمار. فريق يربط كل الأحداث بالمطامع الأجنبية الأميركية والغربية تارة، والروسية تارة أخرى، ثم يكيل سيلاً من الاتهامات للقوى المتآمرة ويرفض أي جدل في شأن أسباب ودوافع وخلفيات أخرى، داخلية وإقليمية، والأصابع الصهيونية الممتدة إلى كل مفصل من مفاصل حياتنا. وفريق آخر ينفي نظرية المؤامرة ويرفض ربط الأحداث والثورات بالعامل الخارجي، ويحدد الأسباب ويلقي المسؤولية على القيادات والديكتاتوريات، ثم يوجه إليها كل ما في اللغة من أوصاف شنيعة. هذا هو الواقع الذي نعيشه كل يوم منذ زمن بعيد، إلا أن المنطق يفرض علينا التعمق أكثر في تسلسل الأحداث ومراجعة خلفياتها وتحديد هوية الجهات المستفيدة والجهة الوحيدة المتضررة، وهي الأمة العربية. وعندما يتحقق ذلك ويُنظر إلى الأمور بعين العقل، ندرك جيداً أن نظرية المؤامرة حقيقية ومدعَّمة بالوثائق وليست مجرد وهم، وأنها تمثل الواقع الذي وصلنا إليه اليوم. إلا أن هذا الاستنتاج لا يمثل سوى نصف الحقيقة، أي أنه لا بد من الاعتراف بوجود مؤامرات دولية دائمة، منها العلني ومنها السري، ولا مجال أيضاً لإنكار المطامع الأجنبية. أما النصف الآخر، الذي لا نعترف به، فهو مسؤولية العرب حكاماً وأحزاباً وهيئات شعبية بدرجات مختلفة. والأنكى من ذلك أن بعض العرب، عن جهل أو عن علم، شاركوا في تنفيذ هذه المؤامرات وسهّلوا تحولها إلى واقع، بل أصبحوا أدوات رخيصة تستخدم لتدمير أوطانهم ومصير أمتهم. ورغم سقوط الأقنعة وانكشاف المستور عن أخطاء أو عن خطايا أصحابها، فإننا نشهد اليوم تمادياً في هذا النهج التدميري في شكل معلن وموثق، إذ يجرى تسليم مقاليد الأمور إلى القوتين الكبيرتين، أميركا وروسيا، ومن ثم إلى القوى الإقليمية، أي إيران وتركيا. أما إسرائيل، فهي المستفيد الرئيس والمتآمر الأكبر، والمتفرج الأكثر سعادة وهو يشهد الدول العربية تدمَّر وتتفكَّك وتقسَّم. وتأكيداً لهذه الحقائق، لا بد من تسليط الأضواء على مجريات الأحداث لوضع النقاط على الحروف وتحديد المسؤولية المشتركة عن تنفيذ هذه المؤامرات. ومن المحطات التاريخية المهمة اخترت هذه الإضاءات: إذا عدنا إلى بداية القرن الماضي، نجد سيلاً من المؤامرات لاستغلال العرب وتحويلهم إلى أدوات لتنفيذ المآرب الاستعمارية، من الثورة العربية الكبرى التي رسمت خطتها بريطانيا، وبعدما قام العرب بالمهمة وأسقطت الخلافة العثمانية، تخلت عنهم وغدرت بهم لإكمال فصول المؤامرة: «سايكس – بيكو» لتقسيم الأمة العربية إلى دول متباعدة تقاسمتها بريطانيا مع فرنسا، ثم «وعد بلفور» الظالم ودعم قيام إسرائيل على أرض فلسطين بعد نكبة العام 1948، ثم العدوان الثلاثي على مصر (بريطانياوفرنسا وإسرائيل)، وحرب 1967 التي تآمر فيها الغرب والشرق مع إسرائيل، ثم تحقق الانتصار العربي في العام 1973. لكن المؤامرة عادت لتطل برأسها عبر ثغرة «الدفرسوار»، ثم جاءت «اتفاقية كامب ديفيد» بتدبير من السيئ الذكر هنري كسينجر لرسم خطة محكمة لتأمين الحدود الإسرائيلية مع سورية ومصر. هذا ملخص سريع لمسلسل الأحداث التي لا يمكن لإنسان أن يتحدث عن براءتها، لتطرح من خلالها أسئلة واضحة المعالم منها: من كان وراء اغتيال الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس أنور السادات عقاباً على دورهما في تحقيق أول انتصار عربي يكسر نظرية «الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر» واستخدام سلاح النفط العربي في وجه العالم للمرة الأولى، ما دعا كسينجر الى التهديد بالانتقام وجعل العرب يشربون نفطهم؟ من ساهم في ضرب الثورة الفلسطينية وقزَّم «منظمة التحرير»؟ ومن عمل على تقسيم التنظيمات الى فصائل متناحرة؟ ومن اغتال القيادات الفلسطينية الوطنية المخلصة وآخرها الشهيد ياسر عرفات؟ ومن أنشأ تنظيم «أبو نضال» ودفعه إلى ارتكاب اغتيالات وأعمال إرهابية؟ من أشعل حرب لبنان في العام 1975 ولماذا؟ ولماذا تُركت تشتعل لأكثر من 15 سنة وما زالت مفاعيلها قائمة حتى يومنا هذا، ومن بينها شلّ المؤسسات لغايات خارجية وتمرير مؤامرة تهجير المسيحيين، وفق ما أفصح عنه كسينجر للرئيس الراحل سليمان فرنجية بقوله إن البواخر جاهزة لنقلهم الى الدول المستعدة لاستقبالهم، فيما أطلق بعضهم شعار أن تحرير فلسطين يمر عبر جونية (البلدة المسيحية اللبنانية)! ومن حرض القيادة الفلسطينية على التورط في هذه الحرب التي انتهت بترحيل مهين للفدائيين بقيادة عرفات إلى تونس؟ من جرّ الفلسطينيين إلى القبول بتنازلات مؤلمة في أوسلو، بعدما رفضوا عروضاً أفضل ألف مرة؟ ومن تغاضى عن إقدام إسرائيل على نسف الاتفاقات بعد إفراغ محتواها تدريجياً، رغم أنها وقعت في واشنطن تحت إشراف الرئيس بيل كلينتون شخصياً وسجلت في الأممالمتحدة؟ من ارتكب جريمة تقسيم الأراضي الفلسطينية التي كانت تحت إشراف السلطة الوطنية؟ ومن شجع «حماس» وتغاضى عنها لضرب المنظمة ثم سكت عن سيطرتها على قطاع غزة؟ هذه أسئلة قليلة جداً من الأسئلة المتعلقة بفلسطين والمؤامرة عليها، لأنه لا مجال للاستفاضة بها في هذا المقال. وتبقى الأسئلة المتعلقة بمجمل الأوضاع العربية، وفيها الكثير مما يتعلق بفلسطين، فأعرض منها: من كان وراء إضعاف الدول العربية وإفقار شعوبها من طريق الاضطرابات والانقلابات والفساد ونهب الثروات والهدر والحروب العربية – العربية والحروب الداخلية، وآخرها في سورية حيث عم الدمار؟ من كان وراء ضرب المجتمعات العربية من الداخل وتفكيك اللحمة الوطنية وتهديد الوحدة بين مكوناتها من مسيحيين ومسلمين وبين سُنّة وشيعة وعرب وأكراد وأمازيغيين وقوميات أخرى ضمن خطة ممنهجة بدأت منذ عشرات السنين؟ وضمن هذه الخطة، من عمل على ضرب إسفين في التكوين الاجتماعي بضرب الطبقة الوسطى التي تعد عماد المجتمعات ومركزاً للتوازن والاعتدال والإبداع الأدبي والفني والإنساني؟ وأسهمت القرارات الجائرة وغير المدروسة، من التأميمات العشوائية والإصلاح الزراعي الذي عُرف لاحقاً ب «التخريب الزراعي» وغيرها من السياسات الخاطئة والمبادئ المستوردة والقيود، في ضرب الزراعة والصناعة وقطاعات الاقتصاد الأخرى. من أجهض كل التجارب الديموقراطية الفتية، لا سيما في مصر وسورية والعراق، والتي كان من المحتم أنها ستتطور إلى أرقى أشكال المشاركة الشعبية وتحقق الاستقرار والنمو؟ ومن استبدلها بأنظمة عسكرية وأعمال قتل وسحل وإفراغ للجيش والمؤسسات من القوى الفاعلة والخبيرة، ومن ثم هجرة الملايين من رؤوس الأموال ورجال الأعمال والأدمغة والعلماء؟ من قسَّم الشعوب إلى طوائف ومذاهب وشجّع على تهجير مكونات أساسية مثل المسيحيين، في سياسة بدأتها إسرائيل ثم انتقلت عدواها إلى الدول العربية؟ ويمكن الجزم هنا أن المؤامرة المنهجية بدأت في الستينيات حين فتحت السويد ودول غربية أبوابها أمام المسيحيين السريان والأشوريين، فيما عمدت أرمينيا أيام الحكم السوفياتي إلى استقبال الأرمن من القامشلي التي كانت رمزاً للتعايش والوحدة لتستقبل بعدها عشرات الألوف من الأكراد العراقيين ليصبحوا أكثرية فيها ويمهدوا للانفصال بعد إعلان الحكم الذاتي نتيجة إفراغها من العائلات العربية والقبائل والعشائر. من حرَّض على الإرهاب والتطرف ودعمه، منذ حرب أفغانستان ونشوء «القاعدة» وصولاً إلى «القواعد» و «الدواعش» وغيرها من التنظيمات التي تنامت وسط علامات استفهام وشكوك كثيرة لتشويه صورة الإسلام وإشعال نار الحروب الإسلامية – الإسلامية والترويج للفتنة بين الشيعة والسنة، خصوصاً بعد وقوع «الثورة الإسلامية» في إيران ونشر مبدأ «تصدير الثورة» حيث دعت الدراسات والتقارير الاستخبارية إلى ترك الأمور تمضي في مجاريها لشق الصف الإسلامي بزعم أن الإسلام سيشكل الخطر الأول على الغرب بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي ضمن خطة الترويج للإسلاموفوبيا، أي الخوف من الإسلام؟ ولا داعي للتوسع أكثر في سرد مجريات الحروب، من التحريض على الحرب العراقية – الإيرانية و«إيران غيت» التي فضحت الولاياتالمتحدة لتزويدها إيران بالأسلحة الإسرائيلية في وقت كانت تدعي فيه أنها تؤيد العراق، ومن ثم تشجيع صدام حسين على غزو الكويت، والباقي معروف من قيام «القاعدة» بعمليات التفجير في نيويوركوواشنطن وما تبعها من غزو لأفغانستانوالعراق بدعم الفاعليات الشيعية العراقية وغطاء إيراني، وصولاً إلى الفتن وظهور «داعش» وتمددّه ونجاحه في تدمير البلاد وتقسيمها، والمخفي أعظم. هذه الأمثلة هي غيض من فيض الأدلة والحقائق التي تؤكد وجود نظرية المؤامرة على العرب والمسلمين السُنّة بالذات الذين يصورونهم وكأنهم كلهم «دواعش»، وذلك من أجل الهيمنة على المنطقة وثرواتها واستغلال أسواقها لترويج بضائعهم وذهاب مئات البلايين إلى جيوبهم ثمن أسلحة حروب الأغبياء. أما الهدف الأساس لهذه المؤامرات فهو تثبيت أقدام إسرائيل في فلسطين وإرغام العرب على القبول بفتات الحل السلمي، أو سلام الإذعان. إلا أن هذه المؤامرة، كما ذكرت، لا تقتصر على القوى الكبرى، بل هي نتاج شراكة استراتيجية – جهنمية مع «أحصنة طروادة عربية». ومع هذا، يصر بعضهم على الإنكار والسخرية. ولا نملك رداً على هؤلاء إلا القول «إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم»!