علموا منزلة القرآن فكان من أهم أولوياتهم في رمضان في زمن غابت فيه القدوة الصالحة، وغُيب كثير من الصالحين عن مخالطة الناس، وتصدرت موجات الفساد وأهله وصار المفسدون هم قدوات المسلمين، يحن المسلم إلى السلف الصالح، ليتزود من سيرتهم، ويسلك نهجهم في السير إلى الله. ورحم الله الإمام مالك فقد كان يستأذن أصحابه بعد انتهاء درس العلم ليجلس مع الصحابة ساعة، فيدارس كتبهم ويقرأ قصصهم، فينطبع في نفسه تلك القدوة التي لم يقدر له أن يعيش معهم، فإن حرم معاشرتهم حية، فسيرتهم زاد له على الطريق. وقد كان الصحابة يدركون أن من أهم أهداف المسلم في رمضان..تكفير الذنوب، ولهذا كانوا يستقبلونه بهذا المعنى، كما ورد عن عمر أنه كان يقول: "مرحباً بمطهِّرنا من الذنوب" وكانوا يكثرون من الدعاء بالمغفرة، فقد كان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إذا أفطر يقول: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي" مع القرآن: ولقد أولى الصحابة رضوان الله عليهم القرآن الكريم اهتماماً خاصاً في رمضان، فكانعثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن مرة كل يوم. ولم يكن حال القرآن مع الصحابة في رمضان مجرد قراءة، بل كانت الخشية غالبة عليهم في قراءتهم، فقد أخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: لما نزلت أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) (النجم)، فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله". فانظر بكاء أهل الصفة من الصحابة وتأثرهم بقراءة القرآن، وذلك أنه جرى على قلوبهم، قبل أن يجري على ألسنتهم. وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - كثير البكاء عند قراءة القرآن، فقد ورد أنه قرأ سورة المطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين (6) "المطففين" فبكى حتى خر من البكاء. كما كان الصحابة يطيلون صلاتي التراويح والقيام، لا يقرؤون بآية أو آيتين كما يصنع بعض المسلمين، فقد ورد عن السائب ابن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبَي بن كعب وتميم الداري - رضي الله عنهما - أن يقوما للناس في رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر". بل كان الصحابة يعدّون من يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من المخففين، فعن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: "ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم. " وكان الصحابة يقومون الليل حتى يقترب الفجر، وما يكاد أحدهم ينتهي من السحر حتى يؤذَّن للفجر، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر". الخلوة للعبادة: ورد عن نافع مولى ابن عمر أنه قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف الناس من المسجد أخذ إداوةً من ماءٍ ثم يخرج إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا يخرج منه حتى يصلي فيه الصبح". وكان بعض الصحابة يختم القرآن كل سبع ليال، في التراويح، فقد ورد عن عمران ابن حُدير قال: "كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع". النساء والشيوخ: بل كان القوم يحرصون على طول القيام مع كبر سنهم، ولم يكن هذا مانعهم من أن يطيلوا، فقد ورد عن سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال: "دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنّه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأني قُفَّةٌ حتى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم الثلاثين آية، وأحسبه قد قال: أربعين آية في كل ركعة يعني في رمضان"، بل ورد أن أبا رجاء كان يختم بالناس القرآن في قيام رمضان كل عشرة أيام. ولم يكن النساء أقل نصيباً في صلاة التراويح من الرجال، فيروي أبو أمية الثقفي عنعرفجة أن علياً كان يأمر الناس بالقيام في رمضان، فيجعل للرجال إماماً، وللنساء إماماً، قال: فأمرني فأممت النساء. الإفطار مع الفقراء: وكان الصحابة لا يكثرون من الطعام في الإفطار، وكان بعضهم يحب أن يفطر مع المساكين، مواساة لهم، فكان ابن عمر رضي لله عنهما لا يفطر إلاَّ معهم، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه إياه، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً. العشر الأواخر: أما في العشر الأواخر، فكانوا يجتهدون اجتهاداً منقطع النظير، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، رغبة في بلوغ ليلة القدر المباركة، التي كانوا يستعدون لها استعداداً خاصاً، فكان بعضهم يغتسل ويتطيب في ليلة السابع والعشرين، التي رجح بعض العلماء أنها ليلة القدر، فيقضونها بين صلاة وذكر، وقيام وقراءة قرآن، ودعاء وتضرع لله - تعالى -، سائلينه أن يعتق رقابهم من النار.