في النصف الثاني من الثمانينات حدث اتصال بين جنرال ليبي يدعى خليفة حفتر والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد عن طريق سفير الجزائر في طرابلس آنذاك، الأخ عبد القادر حجار،وكان مضمون الاتصال طلبا من حفتر لتدعمه الجزائر في محاولة انقلابية ضد معمر القذافي.. كانت العلاقات بين الجزائر وليبيا علاقات نضالية قديمة تعود إلى مرحلة الجهاد الليبي ضد المستعمر الإيطالي بزعامة شيخ الشهداء عمر المختار، وهو جهاد شارك فيه جزائريون استشهد بعضهم في مواجهة جيوش بينيتو موسوليني، الذين كان يقودهم المارشال غرازياني. ولم تنس الجزائر لليبيين في عهد الملك إدريس السنوسي دعمهم الكبير للثورة الجزائرية، والذي تميز بأنه خلا من أي محاولة للتدخل في شؤون الثورة الجزائرية من قريب أو من بعيد، وهو ما شارك فيه آنذاك الطالب معمر منيار القذافي، الذي كان يقوم ببيع صورة جميلة بوحيرد، ويضع ثمن البيع في صندوق دعم الثورة الجزائرية، كما روى شخصيا للرئيس هواري بومدين في جلسة على جبل عنابة كنت من حضورها. وينقلب ضباط حملوا اسم الضباط الأحرار على الملك إدريس السنوسي، ولم تحاول جزائر بومدين التدخل في الشأن الليبي، برغم أن الملك كان من أصل جزائري، وكان يومها يقضي عطلة في تركيا، وكان هذا الموقف تجسيدا لمواقف الجزائر الثابتة في عدم التدخل فيالقضايا الداخلية للأشقاء. وتعاملت الجزائر بإيجابية مع النظام الجديد الذي بدا أنه يحظى بشعبية جماهيرية معتبرة، وتابعت باهتمام كبير التحركات المصرية في اتجاه طرابلس، والتي كانت طليعتها زيارة محمد حسنين، هيكل وضابط المخابرات المعروف جدا عند الجزائريين، العقيد فتحي الديب. كانت الجزائر تدرك جيدا محاولات النظام في مصر احتواء الضباط الشبان، الذين كان قدوتهم الأولى ومثلهم الأعلى، ككثيرين غيرهم في المشرق العربي، الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت خبرة معظمهم السياسية مستمدة من خطبه وتصريحاته ومواقفه. وبرغم كل التقدير الذي كانت تحمله الجزائر لمصر عبد الناصر، إلا أنها كانت تدرك أن أمن ليبيا جزء من أمنها القومي، وكانت حريصة على ألا تكون ليبيا جدارا يفصل المغرب العربي عن المشرق العربي، بل تكون جسرا ديناميكيا بين جناحي الوطن العربي. لكن القيادة الليبية آنذاك، وربما بتأثير من اتجاهات وأفكار مشرقية، كانت ترى أن فكرة المغرب العربي هي فكرة استعمارية شأنها في ذلك شأن فكرة الهلال الخصيب، وكان هذا الأمر مصدر احتكاك بين الليبيين والجزائريين، وعشته شخصيا في تلاسن حدث بيني وبين الرائد عبد السلام جلود في حاسي مسعود ذات يوم من أيام 1972. ولم تكن العلاقات دائما سمنا على عسل كما يُقال، ولقد عبر الرئيس الجزائري يوما عن رأيه الصريح في التحرك، الذي أصبح يُسمّى "ثورة الفاتح"، وذلك في حديث غاضب عن ليبيا إثر تصرف مستفز للعقيد القذافي، قال فيه ما معناه أن الملك الليبي كان شيخا عجوزا تجاوزته الأحداث، وكانت السلطة ملقاة في الشارع فالتقطها العقيد ورفاقه. لكن إرادة المصلحة العليا للبلدين كانت هي المنطق السائد، برغم ما تميزت به العلاقات من شد وجذب، نتج غالبا عن التقلبات التي أصبحت جزءا من تصرفات العقيد. وهكذا سجلت الجزائر بكل امتنان للقيادة الليبية الجديدة دعمها المالي إثر الهياج الذي أصاب السلطات الفرنسية نتيجة لتأميم الجزائر للنفط في فيفري 1971، وكانت الوديعة المالية التي وضعها العقيد في البنك الجزائري حتى نهاية نفس السنة بادرة صداقة وأخوة لم تنسها الجزائر حتى يومنا هذا. ويحدث جديد في نفس العام. كان ذلك يوم 10 جويلية 1971، وكنت أبلغتُ الرئيس بومدين بكل التفاصيل المتوفرة عن الانقلاب الذي قامت به مجموعة عسكرية ضد الملك الحسن الثاني، وظل الرئيس ملازما مكتبه إلى أن تمكنت مصالح الرئاسة من فتح خط هاتفي تحدث فيه الرئيس مع الملك، الذيأعطاه عرضا عن أهم التطورات وأكد له أنه استرد السيطرة على الأوضاع. ويطلب العقيد الرئيس هاتفيا، وكنت بجانبه عند مكالمته مع القذافي، وسمعته يقول له بهدوء بأن ما حدث في قصر الصخيرات هو من نوع انقلاب القصور، وبأنه تحدث مع الملك وبأن الأمور عادت إلى نصابها. ولاحظت أن الرئيس بدأ يتوتر ويرفع صوته وهو يعيد ما سبق أن قاله، ويؤكد بأنه ليس هناك ضباطا أحرارا ولا هم يحزنون. وعندما أغلق الرئيس الهاتف قال لي ساخطا: العقيد يريد أن يرسل طائرات ليبية لقنبلة قصر الصخيرات، دعما لمن سماهم "الضباط الأحرار". ويتوقف الرئيس لحظات ليقول: أنا متأكد من أن العقيد لا يملك حتى خريطة سياحية يعرف منها أين يقع القصر الملكي. ولم يكن سرا أن العقيد كان يعرف عجزه عن القيام بأي عمل عسكري، وأحسسنا يومها أنه كان يريد أن يستثمر الموقف لصالحه عند جنرالات المقاهي في بيروت وغيرها، ليقول بأنه كان يريد القضاء على النظام الرجعي في المغرب، لكن الرئيس بومدين منعه وتصدى له. وقال بومدين يومها تعبيره المشهور: استقرار العرش المغربي ضمان لاستقرار المغرب، واستقرار المغرب ضمان لاستقرار الجزائر. ويمر نحو عامين، وتنطلق مجموعات مناضلة في الصحراء الغربية ضد الوجود الإسباني لمحاولة انتزاع حق الشعب هناك في استفتاء يقرر فيه مصيره، وهو ما قد أعود للحديث عنه مطولا في فترة لاحقة , كانت الجزائر يومها تؤيد مجموعة تناضل ضد الاستعمار الإسباني في المنطقة، وكان الاتفاق قد تم مع كل من المغرب وموريطانيا على تأييد طلب المغرب الذي كان تقدم به للجمعية العامة للأمم المتحدة في 1966 لإجراء استفتاء للسكان في المستعمرة الإسبانية، حيث يوجد آخر وجود إسباني في إفريقيا، مع سبتة ومليلية شمال المغرب. وحملت المجموعة التي كانت الجزائر تتعاطف معها اسم "المورهب" (MORHOB)، وهي الحروف الأولى من اسم المجموعة بالفرنسية والذي يعني "حركة مقاومة الرجال الزرق". لكن تعاطف الجزائر تقلص ثم فتر نهائيا عندما تبين أن المجموعة مخترقة من مخابرات معينة، وكان ذلك في نفس العام الذي برزت فيه مجموعة جديدة حملت اسم "البوليزاريو" وهي الحروف الأولى من الاسم بالإسبانية للمجموعة التي كانت ليبيا أول داعم لها، في حين ترددت الجزائر، التي كانت لا تزال على موقفها من تأييد الاستفتاء الذي طالب به المغرب. لكن عام 1974 شهد غضبا جزائريا سجل به هواري بو مدين موقفا مجسدا للإرادة السياسية الجزائرية المنبثقة من بيان ثورة نوفمبر ومن تجربة الجزائر وممارساتها بعد استرجاع الاستقلال، وهكذا وقفت بكل حزم ضد الوحدة الاندماجية التي أعلنت في جربة، عندما اتفق الرئيسان الحبيب بورقيبة ومعمر القذافي على إقامة وحدة اندماجية بين البلدين، بعد خلوة شهدتها الجزيرة السياحية التونسية المعروفة. وأذكر أنني قلت يومها للرئيس الراحل بأن هذا الموقف سيدعم ما يلومه جنرالات المقاهي في المشرق العربي من أن الجزائر لا تؤمن بالوحدة العربية، وهي بلد يسيره فكر انفصالي. وقال لي بومدين بجدية واضحة: الجزائر لا تجري وراء قطار بعد انطلاقه، وهؤلاء الناس لا يدركون أن العمل الوحدوي هو مثل الزواج، ولا يفهمون معنى المثل الجزائري الذي يقول بأن "زواج ليلة يتطلب إعدادا قد يستغرق أكثر من سنة"، وأنا لا أفهم كيف يمكن أن تتم وحدة اندماجية بهذه السرعة بين بلدين ينتمي كل منهما إلى منطقة مالية مختلفة، ولا يجمع بينهما أي اتفاق اقتصادي، ولا ينسجم التنظيم السياسي في أحد البلدين مع الأسلوب المتبع في البلد الآخر، بل إن البلدين يطبقان نظامين مختلفين في التربية والتعليم، والمجتمع في البلدين لا يعرف الانسجام والتكامل المطلوبين. ثم يتساءل: هل مجرد اختلاء شاب في مقتبل حياته السياسية مع رئيس عجوز، لعله يغيب عن وعيه معظم ساعات النهار، يمكن أن يكون عملا سياسيا يلزم بلدين وتتحمل المنطقة تبعاته. ويضيف الرئيس ضاحكا: هذا زواج متعة، وأنت تعرف حكم زواج المتعة. وعرفت العلاقات الجزائرية الليبية قوة متزايدة إثر زيارة الرئيس أنور السادات المشؤومة للقدس المحتلة، وهكذا شاركت الجزائر مع ليبيا في إقامة الجبهة القومية للصمود والتصدي التي انطلقت في طرابلس قبل أن ينتهي عام 1977، والتي ضمت اليمن الجنوبي وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتملص العراق من الانضمام لها بحجة التناقض مع قرار مجلس الأمن 242 الذي كانت قد وافقت عليه سوريا. وغضب الرئيس بومدين غضبته المشهورة عندما أرسل السادات طائراته لقنبلة ليبيا، ولم يغادر الإسكندرية إلا عندما أصدر الرئيس المصري أمره بإيقاف كل العمليات العسكرية ضد ليبيا، والتي ادعى البعض يومها أن سببها رفض القذافي دفع ثمن طائرة رئاسية جديدة للرئيس المصري. وينتقل الرئيس بومدين إلى رحاب الله، ويتولى السلطة الرئيس الشاذلي بن جديد، ويتصور العقيد أنه قادر على التحكم في توجهات رئيس جديد لم تعرف عنه خبرة دولية متميزة، ويفاجأ القذافي بأن معدن المجاهد الجزائري هو نفسه، وبأن الرئيس يستعين بنفس المجموعة التي كانت تعمل مع الرئيس بومدين، الذي كنا نعرف أنه يعمل له ألف حساب، بحيث كان البعض يقول إن العقيد كان يخشى شخصين، عبد الناصر وبومدين. وسمعت العقيد وهو يتحدث مع الرئيس في مكتبه بقصر الشعب، وكنت على بعد أمتار قليلة، ويسأله بحدة لم يخفها عما إذا كان فلان(أنا) ما زال يعمل معه، ولا أعرف ما إذا كان يتصور أنني لا أسمع ما يقوله أو أن الأمر غير ذلك. وتعرف تلك السنوات مغامرة القذافي في تشاد، والتي كانت انطلاقتها المضحكة المبكية الوحدة التي أقيمت بين طرابلس ونجامينا في جانفي 1981، بدون الاستفادة من تجربة "جربة" التي ولدت ميتة. وتتطور الأمور إلى المطالبة بمنطقة "أوزو" الحدودية، وإلى قضايا تشابكت فيها عناوين فيلكس معلوم وغوكوني وداي وحسين هبري والمخابرات الفرنسية، والتي لا مجال لاستعراضها اليوم. وتقف الجزائر ضد العملية التشادية منذ بدأت نذرها في 1978، وذلك من منطلق موقفها الثابت والدائم الذي يرفض كل المطالبات بالحقوق الترابية التاريخية، والمرتكز على قرار منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 القاضي باحترام الحدود الموروثة عند الاستقلال، وكان هذا موقفها في السبعينات من مطالبات الرئيس بري بحقوق تاريخية في إقليم أوغادين التابع لإثيوبيا، وموقفها الذي اتخذته دوما في قضية الصحراء الغربية في السبعينات، ثم في غزو العراق للكويت في بداية التسعينات. ويُمنى الجيش الليبي بهزيمة ساحقة، ويُؤسر قائده خليفة حفتر في 22 مارس 1987، ويقال يومها إن القذافي هو المسؤول الأول عن الهزيمة لأنه لم يمدّ الجيش الليبي بحاجاته الضرورية خوفا من أن يعود منتصرا إلى طرابلس فيًهدد حكمه. ويفرّ حفتر بعيدا عن ساحة المعركة، وتتردد إدعاءات كثيرة عن سوء قيادته للمعركة، وعن تصرفات غير سليمة قيل أنه ارتكبها حتى مع جنوده، ثم يروى أنه ارتبط بدول أجنبية كان لها رأيها في أحداث تشاد، وكانت لها مصالحها في العمليات الحربية، انطلاقة وإجهاضا، (ويقضي نحو عشرين عاما في الولاياتالمتحدة، ربما استعدادا ليوم موعود). وكان كل هذا أمام صانع القرار الجزائري عندما جاءه نبأ الطلب الذي تقدم به حفتر للحصول على دعم جزائري ضد القذافي، والذي كان يحمل ضمنيا احتمال وجود دور خارجي، قد يكون مقدمة لتدخل دول أجنبية في منطقة المغرب العربي. ويتناسى الشاذلي بن جديد أن العقيد القذافي حاول اللعب على ما تعرفه العلاقات الجزائرية المغربية من توتر، عندما اتجه نحو إقامة وحدة مع الرباط في أوت 1984، ولم يضع أمامه إلا المصلحة العليا للمغرب العربي، فقال لمن نقل له الطلب: أبلغ هؤلاء الناس أنهم سيجدون أنفسهم في مواجهة الجيش الجزائري إذا قاموا بأي تحرك يمكن أن يهدد استقرار المنطقة وأمن الجوار. كان هذا في الثمانينات.