الإدراكات في هذه المرحلة كانت غافية؛ فقد أخذتني خالتي في نقاوس على ظهرها لأتلقى اللقاح، وكان موضع الحقنة في ذراعي مؤلما؛ لكن الإيلام بدا لي يومئذ كما لو أنهم تعمدوا حرق ذراعي بعود كبريت.. وأذكر أني تماديت في البكاء لفترة طويلة مع أنه لم يعد هناك ألم؛ فلعله الشعور بالغدر من قبل خالتي التي تكون قد وعدتني بأشياء حين أركبتني على ظهرها وذهبت بي إلى البطحاء التي كان يجري فيها التلقيح أمام دار القايد بوكميش بنقاوس.. وفي ذراعي الأيسر اليوم ثلاثة آثار مثل أختام لتلك التلاقيح؛ لكني لم أدرك منها بطريقة مبهمة غير واحدة وأنها كانت تبدت لي في صورة إشعال عود كبريت حارق في ذراعي!.. وبخلاف ذلك، فإن الألوان التي ندركها في الصبا الباكر؛ ألوان زاهية تشبه الألوان الخلابة التي نراها في الأفلام المتقنة التصوير والإخراج على شاشات السينما ويستحيل أن نستعيدها في شاعريتها الغامرة في كبرنا إلا بوسائل بصرية مكبرة .. فقد رافقت والدي مرة إلى حفل زردة أقيم طلبا للاستسقاء؛ وقد ألبستني أمي أجمل ثيابي ووضعت على رأسي طربوشا أحمر بشرابية حريرية سوداء؛ وأركبني والدي أمامه على البهيمة، وانطلقنا نحو الخلوة التي كانت تبعد عن الديار بنحو ثلاث كيلومترات .. كان موكب السيارة من راكب وراجل يتداولون الحديث عن سنة جدباء قاحلة؛ وقد تراءى الزرع في أسى وقنوط؛ وكيف أن الربيع غير ربيع؛ فقد انسلخ دون نوء؛ فنباتات الزروع لافحات وحول وريقاتها المصفرة العطشى نسجت حشرات تشاكل العناكب خيوطها البيضاء المغبرة فهي تخنقها خنقا؛ فيما بعض النباتات تجاسرت وأخرجت شطاها الصغير وسنبلها الذاوي مع أنها لا تعلو قيد إصبع على وجه الأرض.. لقد كان زرعا وخيما وخامة القحط واشتداد الحر؛ وقد خيم غيم عبوس من غبار رمال الصحارى المصفر. كان موكب السيارة في الحقيقة يائسين من فائدة الزردة وقد تضرر الزرع ؛ ويستحيل أن تجبر الحال؛ مع أن البعض ربما كانوا يرددون مثلا سائرا يتداوله الفلاحون تفاؤلا هو قولهم :".. قد يحييها يبرير من قاع البير.." ولات حين إحياء.. في الخلوة؛ مكان الزردة؛ التي كانت تشرف على خندق عميق هو عبارة عن عين ماء تسمى عين جريدة وعن مجرى مائي فيه سلسلة من الأحواض الممتلئة المتلألئة بماء شديد الزرقة .. إن تلك الأحواض غالبا ما كان الفتية في الصيف يسبحون فيها مغامرين، وقد شاع أن العين والأحواض مسكونة بالعفاريت التي يقال إنها تسببت في مصرع بعضهم.. (وكان من آخر ضحايا تلك الأحواض جنديان في الخدمة الوطنية أثناء القيام بإنشاء السد الخضر في السبعينيات) تفسيري اليوم للظاهرة أنه لاعلاقة للعفاريت بقتل الفتية السابحين بل قد يكون في الأحواض ثعابين سامة قاتلة، خاصة والمنطقة تعج بالأفاعي والثعابين الساكنة تحت الصخور الرملية .. وبين هذه الأحواض في قعر الأخدود الذي يسمى باسم العين؛ عين جريدة وبين الخلوة في أعلى الصخرة؛ يتمطى درج شديد الانحدار مكون من صخور رملية متراصة؛ لا يمكن المرور بين فجواتها غير العنز الماهر في التسلق أو بعض الصبية الشياطين الذين أوتوا مواهب خاصة. لقد كانت صخور مدرج الهضبة شبيهة بانتظام صخور الأهرام بمصر.