لم يكن الاغتراب يوما حلا لمعضلةِ كما كنت أعتقد قبل العشاء الأخير على مائدة الوطن، لم أفكر طويلا بل قررت في جلسة مع نفسي لمدة نصف دقيقة أن اغتاله بالسفر، وأحمل غل حقيبة، وإمضاء الغضب، ولم ابتعد عن قراري إلا بمسافة أسبوع حتى كنت أمضي ورقة الخروج في أروقة المطار، كنت سعيدا جدا، بل كنت فرحاناً كأني سأتزوج فرنسا كلها، وبصراحة كانت قصة واحدة لا شريك لها تتردد في ذهني، تلقى على مسامع الروح حتى صرت أرى استعداد الطيار قبل العروج في السماء، لازمة لا طائل منها، اضغط (يارحم ولديك) على زر (خلينا) نطير بعيدا عن هاته الشواطئ الكئيبة، ارتفعنا صوب السماء وكان القلب يهتز والأنفاس بالكاد تخرج والأذان أصابها الصمم كي لا تسمع أنين الوداع، وتنكد عليَّ غبطةِ وتذهب نشوةِ، أنا العريس وأنا العراب وعروسي تنتظر في الضفة الأخرى من البحر الأسود المتوسط، و من هنا إلى هناك لا صوت يعلو فوق صوت الزفة على امتداد السحاب، كانت مضيفة الطائرة تقوم بحركات غريبة كأنها دورة تكوينية حول كيفية التعامل عند الطوارئ، تذكرت حينها الصدر الأخير من أبيات للملك الضليل: إنما نحاول ملكا أونموت فنعذرا…لا حاجة لي بنجاة، فمهما تغيرت المحطات لهبوط اضطراري وإذا لم تعد إلى نقطة الإقلاع الأولى فإني نجوت، حتى وإن كان الهبوط في بطن الحوت..!! فتحت محفظتي لأتفقد جواز السفر للمرة السبعين كي لا يعاد إرسالي من حيث أتيت جارا أذيال القطيعة، وبعد أن اطمئننت على أوراقي وأنها لا تزال قيد الحفظ والصون، وجدت ديوان شعر أهداه لي كاتبه قبل الرحيل بليلة، قرأت الإهداء الجميل وقلبت الصفحة والتي تليها حتى وقعت على قصيدة جميلة مطلعها : ورثو الكراسي بعدما هلك الجميع فدع التنطع جانبا واختر مكانك في القطيع… يا سيدي الشاعر الرائع يا هدية السماء ومملكة الصداقة والأخوة، إني غيرت المعادلة واتخذت قراري فانتصرت عليها، مما أعطاني جرعة جديدة من الفرح، إذ أني تركت التنطع جانبا ولكني أفلتت من القطيع وتركته خلف مراكبي، والعجيب الغريب أن القصيدة تحوم حول القصة ذاتها التي كانت تمنحني القوة وتكشف الغمى وتبعث لي برسائل تتقاطر بالأمل في عودتي منتصرا إليها، كيف لا وهي قصة مغترب غادر البلاد منذ عقدين من الزمن، خرج منها مذموما مدحورا ليعود إليها بعمامة المهدي المنتظر وربطة عنق السامري وثراء قارون الفاحش، ودهاء هامان ليجد مُلك سليمان ينتظره على بساط أحمر مفروش على الأرضية التي منها طار ذات يوم، اكفهرت سماؤه بسحابة ملعونة وملعون من ينظر إليها، هذه كانت قصتي دون اختصار وتلك حكايته المختصرة وبينهما 16 سنة من اجترار الوهم والخيبة والهزيمة …