رغم نور البصر الذي حُرِمَته.. راحت عيناها تتألق ببريق حانٍ يحمل ذكريات 30 عامًا من الكبد والعناء.. والكلمات تنساب من فمها بمداد من حب كبير ملك عليها جوانب الفؤاد: ''هو أصغر أبنائي الأربعة؛ لكنه أصبح -بعد أن فقدت وإخوته الثلاث البصر- العين التي تبصر، واليد التي تعطي، والمرافق في رحلاتنا اليومية إلى الأطباء والمستشفيات للعلاج، والعائل الذي ينفق.. '' هكذا بدأت (بدرية إبراهيم زهران) حديثها ل''إسلام أون لاين.نت'' عن ابنها: (السيد عبد الحميد خليفة معبد)''. وتضيف الأم -والعبرات تترقرق من عينيها الدامعتين: ''بالنسبة لنا هو الابن والأب والأخ والصديق والرفيق.. ومن دونه لم يكن لنا استقرار ولا عيشة كريمة بعد فضل المولى سبحانه وتعالى''؛ فقد أصبنا بمرض ''جلوكوما العين'' اللعين، وتمكن المرض من أبنائي جميعًا عدا (السيد)، الذي كان لنا على مدار 30 عامًا العصا التي نتوكأ عليها، وكان في خدمة إخوته الثلاث مكفوفي البصر.. يقضي حوائجهم، ويسهر على علاجهم وراحتهم، وكان وسيظل بإذن الله بارًّا بأمه وأبيه وأشقائه''. وقد حصل (السيد معبد) -39 عامًا- على لقب ''الابن المثالي لعام ''2008 وكرمه محافظ الإسكندرية اللواء ''عادل لبيب''، ثم حصل على لقب الابن البار 2008 وكرمه الدكتور علي مصيلحي وزير التضامن، في حين حصلت والدته على الجائزة الثانية كأم مثالية في العام نفسه. مرتبة الشرف الأولى جرت العادة أن يعتني الأخ الأكبر بأخيه الأصغر، إلا أن (السيد معبد) قد غير تلك القاعدة، حين تحمل مسئولية أخيه الأكبر المحروم من نعمة البصر حتى حصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى، وعُين أستاذًا للنقد الأدبي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، فكان بمثابة وسام شرف للأخوين. ساعد (السيد) شقيقه محمدا في تحصيل دروسه، ورافقه إلى الكلية والمكتبات العلمية، وعمل بكد حتى يوفر له كل ما يحتاج من أدوات وكتب، حتى حصل محمد على ليسانس الآداب بتقدير عال، وتاقت نفسه إلى إكمال دراسته العليا إلا أنه خجل من أن يكلف أخاه الأصغر ما لا يطيق من عنت الطموح. وهنا تقول والدتهما: ''شعر (سيد) بما يعتمل في نفس أخيه، فبذل جهده واستدان حتى حقق له رغبته، وأتم الله علينا فضله بحصول ولدي د. محمد على الماجستير، ثم الدكتوراه.. فكان هذا بمثابة سعادة حقيقة لولدي الأصغر الذي أحس أن تعبه جاء بفائدة''. ورفض الابن البار الزواج حتى يزوج شقيقه الأكبر، وبالفعل ساعد أخاه على الزواج وأثث له بيت الزوجية، وهو الآن زوج، ووالد لثلاثة أطفال. وأخيرًا تزوج ''الصدر الحنون'' -كما تصفه والدته التي استطردت-: ''رغم زيادة مسئولياته بالزواج وإنجاب حفيداي: حبيبة ويوسف -بارك الله فيهما؛ إلا أنه لم يقصر في واجباته نحونا ولم يتأخر عن أي طلب لنا حتى ولو بنسبة .''1 بارًّا بأختيه وفضلًا عن أخيه الأكبر، بسط (السيد) حنانه واهتمامه على أختيه اللتين حرمتا البصر، فحرص على اصطحابهما دائمًا إلى مركز التأهيل المهني لرعاية المكفوفين؛ كي تتعلما حرفة تخرجان بها إلى الحياة. ونجحت مساعي الابن البار في مساندة شقيقتيه حتى تم توظيفهما بإحدى المصالح الحكومية ضمن نسبة ال5 للمعوقين في وظيفة عامل سويتش. بارًّا بوالديه كما دأب (السيد) على مرافقة والده المسن الذي كان يعمل ''سباكًا'' فتعلم منه المهنة وأصبح ساعده الأيمن، ورغم كل هذه المسئوليات أكرمه الله بإتمام تعليمه، فحصل على دبلوم صنايع أهله للالتحاق بالعمل بإحدى شركات البترول. ولم يهدأ له بال-كما تقول والدته- ''حتى ادخر جزءا من ماله القليل واصطحبني وشقيقته الكبرى -مكفوفة البصر- لقضاء عمرة رمضان عام ,1997 وفي رمضان التالي اصطحب أخته الثانية لعمرة رمضان أيضًا. وتحاول الأم الرءوم جمع حروف كلماتها المتناثرة بين أمواج المشاعر الفياضة قائلة: ''مع مرور الزمن هاجمتني الأمراض، وأصابني السكر والضغط وتصلب الشرايين وانزلاق الغضروف وغيرها، مما جعلني في حاجة مستمرة إلى الذهاب للأطباء من ثلاث إلى أربع مرات أسبوعيًّاً وكذلك أشقاء (سيد) الثلاث، وفي كل الأحوال كان معنا لا يكل ولا يمل''. نهر العطاء أن يعطي الإنسان قلبه وحياته لمن يحب أمر رائع، لكن الأروع أن ينسى أنه يفعل ذلك، فيستمر نهر العطاء في التدفق دون أن توقفه سدود الأنانية والإحساس بالتضحية. ف(السيد معبد) لا يرى في كل ما قام ويقوم به لأجل أسرته سوى واجب عليه، وهو ما عبر عنه بقوله: ''منحني الله سبحانه وتعالى الصحة والعافية ونعمة البصر لأكون سببًا في خدمة بقية أسرتي، وإنني على استعداد لفعل ما هو أكثر من هذا إن احتاج الأمر، فليس لي في دنياي سواهم''. وترتسم على ملامحه المصرية الأصيلة علامات التأثر، مشددا أنه ما شعر بمعاناة قط بسبب ظروف أسرته، ويضيف: ''إن كنت عانيت وما أزال، فبسبب الظروف المالية وصعوبة المعيشة؛ ولكن بفضل الله -عز وجل- استطعت أن أحقق الكثير، وما زلت أطمح في المزيد لأسرتي التي أحبها وأفتخر بأنني فرد منها''. وما زال العطاء مستمرًّا ويقسم (السيد) مسئولياته المتعددة على مدار اليوم بما يضمن رعاية كل من قرر أن يمنحهم حياته، فيقول: ''أصحو يوميًّاً عند صلاة الفجر، فأصلي وأذهب لعملي بمنطقة العامرية -غرب الإسكندرية- وأعود منه في تمام ال4 عصرًا، فأذهب إلى والدتي في المنشية -وسط الإسكندرية- لأرتدي مريلة المطبخ فورًا، وأساعدها -هي وإخوتي- في إعداد الطعام''. ''وبعد أن نتناول الغداء معًا أعطي لأمي الحقن؛ ومنها: حقنة الأنسولين؛ حيث حصلت على دورة في الإسعافات الأولية خصيصًا لأجلها، ثم أذهب لأشتري لها ما تحتاجه من السوق، وأتصل بأخي الأكبر لأشتري له ما يحتاجه أيضًا''. وأضاف (السيد): ''بعد والدتي أسرع إلى منزل أخي الأكبر في سيدي بشر -شرق الإسكندرية- لأعطيه المشتريات، وأخيرًا أعود إلى زوجتي حيث أسكن في العصافره -بشرق الإسكندرية''. وبعد أسبوع شاق من العمل والطواف اليومي بين أرجاء المدينة الساحلية لقضاء حوائج أسرته يقول (السيد): ''في أيام الإجازات أحرص على الخروج مع كل أسرتي لقضاء وقت جميل في أي متنزه أو على شاطئ البحر لأروح عنهم قليلًا''. أما عن موقف زوجته من هذا البرنامج اليومي الذي لا يجعلها تلتقي به سوى سويعات قليلة في اليوم، وإذا ما كانت تضيق بأعبائه العائلية المتعددة، ابتسم قائلًا: ''لقد من الله علي بزوجة صالحة، ببركة دعاء أمي، التي أصرت على زواجي رغم أنني كنت أرفض خوفًا وقلقًا من زوجة لا تتفهم ظروفي، إلا أن زوجتي متفهمة تمامًا، بل تقدم لي العون قدر استطاعتها، وتأتي معي لوالدتي في كثير من الأحيان للمساعدة، والحمد الله''. نجاح على كل المستويات لم يحل اهتمام السيد بأسرته وانشغاله الدءوب بقضاء احتياجاتهم دون نجاحه الشخصي، حتى وصل إلى درجة رئيس قسم بشركة البترول التي يعمل بها، وذلك ''بفضل الله وبركة دعاء الوالدين واجتهاده في العمل''، بحسب قوله. وتعدى نجاح الابن البار لعام 2008 نطاق عمله؛ حيث تجلت روحه الإيجابية من خلال حرصه على المشاركة السياسية، فكان أحد المرشحين بانتخابات مجلس الشعب 2005 عن دائرة المنشية بصفته (عمال مستقل)، وهي الدائرة المؤجل الانتخابات بها حتى الآن. ورغم أن تجربة الانتخابات لم تحقق له ما كان يأمل، لم يتوقف السيد عن الاهتمام بقضايا الوطن؛ حيث كان ممثل المسلمين في المسيرة السلمية للأحداث الطائفية ب''شارع ''45 في أبريل ,2006 والتي راح ضحيتها شاب مسلم وآخر مسيحي من أبناء مصر.