الحلقة 13 أبو العباس برحايل رأينا طائرات عملاقة وهي تلقي من علو منخفض بأجسام سوداء في تتابع، قال الكبار إنها للمظليين ولا أدري كيف علموا ذلك؛ وهم سرعان ما يفتحون مظلاتهم فتهوي بهم في تؤدة ومهل ولا يسقطون سقوطا، لكننا لم نكن نراهم حين يستلمون أديم الأرض .. لقد كان جرف منطقة القص يحجب عنا الرؤية .. ثم كانت عملية تمشيط أخرى وجرت هذه المرة وسط شائعات مرعبة تزعم بأن العسكر يقتلون الأطفال الذين يصادفونهم أمامهم . وأصبنا نحن الأطفال بهلع قاتل جراء هذه الإشاعة المرعبة ..وكنا وطنّا نفوسنا على أننا ميتون لا محالة فنحسب للعسكر خطواتهم في ذعر حقيقي وهم يزحفون حثيثا يقتربون من بيوتنا متمنين ألا يصلوا أبدا وكانوا يمشون مشتتين متباعدين عن بعضهم بعضا على رقعة واسعة من الحقول المحصودة حديثا.. وإذ وصلوا وتحدثوا للكبار في هدوء اندهشنا، لقد كانوا مسالمين تماما، وقال الكبار بأن الغالبية العظمى من هؤلاء العساكر مراكشيون.. العجيب وهم يأخذون أماكنهم تحت جدران البيوت طلبا للظلال والاستراحة دعوا بعضا منا نحن الصبيان وكنت أحدهم في ود واحتضنونا وأعطونا بعضا من زادهم المتمثلفي قطع مربعة من القاطو غليظ سميك.. وكان له طعم مالح وغريب، ومع ذلك تناولناه بالقضم والهضم ويبدو أنهم طمأنوا الكبار وهم يتحدثون إليهم بود وسكينة إلى درجة رأينا الحبور على وجوه هؤلاء الكبار الذين راحوا في حماس يطلبون من ربات البيوت أن يعددن قهوة الضيافة لهؤلاء العساكر الذين كنا ظنناهم وحوشا قتلة، وقد جاؤوا خصوصا ليقتلونا نحن الأطفال!! ..هل كانوا من مؤيدي ثورة الجزائر رغم أنهم كانوا مجندين في اللفيف الأجنبي من عسكر فرنسا ؟.. بالتأكيد هذا هو سبب هذه الحفاوة المفاجئة من الكبار والوداعة من هؤلاء العساكر المراكشيين العرب.. الذين غابت رحمة أمثالهم بعد ذلك فيما سيأتي من أهوال المداهمات والتمشيط.. في هذا الصيف أيضا رأينا امرأة في الخمسينيات من غير عجار ولا نقاب بل في لباسها اليومي العادي وفي حر القيلولة تخبط بقدمها الحافية قصب الحقول المحصودة صائحة صارخة بأعلى صوتها تعدد مقتل أبيها وأخيها وهي ترمي الخطى مهرولة لتقطع مسافة عشرة كيلو مترات بغاباتها وبأحراش الجبل المرعبة كي تلحق ببيت والدها الذي قتل البارحة ليلا ذبحا في فج غنية القصي .. لقد كان والدها رئيس الدائرة لدى قايد العرش هو أول ضحية من ضحايا الثورة.. ذبحته الثورة مع ابنه الذي خلف وراءه أرملة وأربعة صبية..لقد جاءه المجاهدون وطلبوا منه أن يهيئوا للفرقة عشاء ومبيتا؛ فجادلهم في عنف وهو يظن أنه مازال دايرة! وتطور الجدل إلى الدرجة التي ركب فيها ابنه إلى ثكنة الجندرمة في عين أزال ليشي بهم ويستقدم عليهم عسكر فرنسا.