الجزء الثالث إن جميع من منّ الله عليهم بالنظر في كتاب الله فهموا كلامه بما هو متاح لهم بمعايير زمانهم، فمنهم من فسّر بالأثر ومنهم من أعمل رأيه فيه ومنهم من جنح نحو الإشارة ومنهم من سلبته بلاغة القرآن فهام في الذوق جمالا وجلالا أو كلف بالبلاغة والبيان والبديع، وأغرم آخرون بالمعجزات ودقائق العلوم والاكتشافات، والتاريخ والآثار..وغرق بعضهم في النحو والصرف وإعراب القرآن وتخصص آخرون في المقاصد..وسوى ذلك، ولكن رغم كل هذه المجهودات ظل القرآن كتاب هداية و"دليل" إيمان ونموذج حوار هادئ ودعوة إلى كلمة سواء، لأن الله أراد لهذا الكتاب أن يكون كامل الدين تام النعمة، ليجد فيه كل سالك لطريق الهداية والإيمان "حبله المتين" الذي يروق له التمسك به معتقدا أنه "العروة الوثقى"، كمقدمة للاستمساك بحقيقة العروة الوثقى لا انفصام لها، لذلك أودع الله فيه شيئا من كل شيء، ففي القرآن تاريخ وسيّر وملاحم، ولكنه ليس كتاب تاريخ، وفيه علوم وكيمياء وفيزياء ورياضة وعلوم بحار وحيوانات وحشرات وأسماك وفلك وجيولوجيا..ولكنه ليس كتابا للعلوم والمعارف، وفيه نثر عظيم وسجع قويم ومقابلات مدهشة وبلاغة معجزة، ولكنه ليس كتاب بلاغة وشعر وأدب، وفيه رؤى وأحلام وحديث عن السحر والكهانة وخوارق الأمور..ولكنه ليس كتاب طرائف وحكايات؟..وفيه خلجات نفس وأسرار قلب وخفايا صدور ومشاعر وعواطف وأحاسيس وحب وبغض، وشهوات واصطراع نفوس، لكنه ليس كتابا لعلم النفس، وقد تحدث عن الأحجار والأشجار والبحار والمحيطات والسحب والأمطار والشموس والأقمار وحركة الأرض..ولكن لا أحد يجرؤ على أن يصفه بالموسوعة العلمية ولا أن ينعته بأنه كتاب العهود الغابرة، إنه كل هذا وأكثر من هذا في موضوعاته، ولكنه ليس شيئا من هذا، في مقاصده وغاياته، لأن فيه كل ذلك وأكثر من ذلك لكنه ليس شيئا من ذلك، فمقصده الأساسي هداية الإنس والجن إلى صراط الله المستقيم، ولذلك أعطى (الله جلّ جلاله) للثقلين من الإنس والجن حرية واسعة وحقا كاملا في أن يتفكروا فيه ويتدبروا آياته ليعرف كل مكلف طريقه إلى الهداية بسماع الحق أولاً، ثم الأخذ بالأسباب التي ييسرها الله له بعد ذلك إن شاء "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" القمر: 17 . فهل يكون هذا القرآن ميسورا للذكر لو "أغلق" القرن الأول حق البشرية في الاجتهاد في فهمه وتفسيره؟ وهل تتناسب هذه الدعوة المحّببة للتذكير والمطمئنة بالتيسير مع سلوك يحظر على الخلق إعمال الفكر فيما قطع السلف في جميع نصوصه، بأن المقصود من كلام الله للناس هو هذا، ولا مجال للاجتهاد مع نصوص "مقدسة" نطق بها من هم خير منا تقوى وأكثر علما وفهما بشهادة الله لهم!! ولذلك تعددت التفاسير وتنوعت أساليب تناول كلام الله بالتأويل، من منطلق أن كل تفسير هو محاولة من عالم لفهم كلام الله وتقديمه للناس بمعايير زمانهم، ولكنها معايير مضبوطة تتكيف مع مستجدات الزمان ومقتضيات المكان وميسّرات القرآن للإنسان، وبهذا الفهم يصبح كل اجتهاد في تأويل معنى من معانيه إذا وافق القواعد اللغوية والسليقة العربية هو تأويل قابل للمراجعة والتعديل والتصويب للتي هي أقوم، لأن التأويل القطعي المطابق للمعنى المراد ليس متاحا للبشر، إلاّ بجهد جماعي مضن واجتهاد مجمع علمّي محيط "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" آل عمران: 07، فدقة الفهم والتفسير المطابق لمراد الله لا يمكن الجزم بصحتها عند التأويل بشروطه، لأن علمه عند الله وحده، وما دون ذلك فاجتهادات بشرية منضبطة بقواعد حاجزة عن الغلوّ في الدين والتطرف في الفهم والتفيقه المسرف والتنطع الفالت من قيود العلم والأدب، مما يجعل التركيز على الآيات الجامعة للعزائم مقصدا للمتشددين لحمل الناس على العسرة بدل اليسار، ومنعهم من حقهم في الأخذ بالرخص بشروطها، وهو ما ينشأ عنه تيار القول المتزندق والتشدد المغلق والإنحراف عن الجادة، وتنشأ عنه الفرق الضالة والجماعات المنحرفة.. ففي القرآن ثوابت ومتغيّرات، وفيه محكم ومتشابه، وفيه عام وخاص ومطلق ومقيد..الخ، ولو أنزله الله قرآنا ثابتا غير قابل للتأويل بشروطه أو فسره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفسيرا واحدا غير قابل للاجتهاد "لجمد" النص على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما فعل في تفسيره لبعض الآيات القليلة التي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين!! ولكنه لم يفعل أكثر من ذلك لأن الله لم يأذن له بذلك، ولم يأمره بتفسير القرآن للناس، ولو أمره لفعل ولو فعل لتوقفت حركة التفسير بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم)، ولكن رحمة الله أوسع من أن تضع البشرية كلها في قالب دين جامد وعقل جاحد، فنزل القرآن مرنا، وتعامل معه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمرونة وواقعية ويسر، وهذا ما حدث واقعا في حياة جيل التأسيس، أما من جهة ما لم يكن متوقعا فهو أن هذا النص المقدس لو كان قابلا للتفسير تفسيرا واحدا لأنزله الله (جل جلاله) "مفسّرا" في حجم أكبر يمتد فيه الكلام الجامع إلى تفاصيل كثيرة تنقله من الإطلاق إلى التقييد، ومن الإختيار إلى الإضطرار، ومن المنهج إلى "القالب" ومن القدوة إلى الصناعة..وهكذا. إن مجرد طرح هذه الفرضية ينزع عن القرآن الكريم أهم ما من أجله نزل وهو توحيد الله وعبادته عن طريق الإختيار المحب لا عن طريق الإجبار المكره، وهذه النعمة الكبرى، نعمة حرية الإختيار للدين، لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالنظر العقلي والتطلع العاطفي والتدبر الوجداني في ملكوت السموات والأرض، وكلها تفريعات لمبدأ أصيل في هذا الدين العظيم، وهو مبدأ الحرية العقلية بتحرير النفس من "قيود" الإملاء وشروط الأحكام المسبقة ودعوتها إلى نفض الغبار عن "فطرتها" التي فطرها الله عليها بعدم وضع أيّ حاجز بينها وبين كلام الله، ولو كان هذا "الحاجز" اجتهادا في فهم كلام الله لأي عالم أو فقيه ما لم يكن مستندا على القرآن نفسه أو ما صحّ عن رسول الله (ص)، فلا واسطة بين العبد وربه إذا تعلق الأمر بالعقيدة، لقوله تعالى "وإذ سألك عبادي عني فإني قريب" البقرة:186. فبأي حق يظهر في الناس من يُحرم كل مخلوق آمن بأن القرآن كلام الله- من تدبر كلام الله وتذوّق خطابه لخلقه دون أية وساطة بينه وبينهم؟ وما قيمة دين "جاهز" يمنع عن الناس أن يعرضوا أنفسهم عليه ليهديهم إلى صراط الله المستقيم ويعرضوا كتابه على عقولهم ليتذوقوا وقعه على قلوبهم فتخشع له وتوجل فتزيدهم إيمانا كلما ازدادوا تحرُّرا، فحرية النظر هي تفسير ذاتي نابع من شوق الإنسان إلى اكتشاف الحقيقة بنفسه والإذعان لله تعالى بمشاعر الإختيار الحر بعد أن يعرض النص القرآني الكريم نفسه على المتأمل فيه، ويقدم له الخيارات الكبرى بين الإيمان والكفر ثم يعطيه الحق المطلق في الإختيار بعد عرض البدائل وإظهار عزة الحق وحقارة الباطل "وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر" الكهف: 29. هل يوجد دين أعظم من هذا الدين؟ وهل يوجد كتاب في الكون كله يقول لكل من يقرأه ولو كان من ألدّ أعدائه- يقول لهم آمنوا بالحق الذي أعرضه عليكم أو اكفروا به ولكن عن بيّنة لأن الحق جاءكم من عند الله، والمشكلة الوحيدة هي أن يحال بينكم وبين الحق فلا تعرفوه أو يأتيكم "الحق" من عند غير الله فلا تألفوه أو يتوسط علماؤكم ودعاتكم وأحباركم ورهبانكم بينكم وبين الله، فيصبح حق الله مغلَّفا بهوى النفوس وشبهات العقول؟؟ إن القرآن، وهو يدافع عن حرية الكفر، نعم: حرية الكفر بعد حرية الفكر والبيان والدعوة، يقدم بين يدي كل هذه الحرية مبدأ عاما هو حق الناس أجمعين، ويتمثل في بيان الحق، ثم يتيح للناس حرية الإختيار ويمنع عن نفسه جمود الاجتهاد في تفسيره، فإذا وجد الحق طريقه إلى عقول الناس في أجواء الحرية والوضوح لم يحتج إلى قوة إكراه تفرضه على الناس، ولا حواجز احتياط تمنعه من الطّرق على قلوبهم والهزّ بعقولهم ليعرفوا أن "دمغته" من صبغة الله، فهو حامي حرية الإيمان وحرية التفكير والفكر كما هو حامي حرية الكفر، وهذا ما جعل الرسول الكريم (ص) يكتفي ببيان أحكام العبادة ويوضح قواعدها كما أمر الله تعالى بها ويعلم المؤمنين حدود الحلال والحرام وكل ماله علاقة بالتكاليف الإيمانية كما أرادها الله وينقل لهم أخبار الغيب التي لا يعلمها أحد إلاّ الله، أو من أطلعه على بعض هذا العيب من رسله، ثم يترك لهم مطلق الحرية في أن يخاطب القرآن عقولهم ويهزّ وجدانهم بشكل مباشر، فكأن الله يحدثهم ليستيقظوا من الغفلة ويتحرروا من التقليد..وهكذا يتاح لكل جيل أن يأخذ من القرآن، تفسيرا وتأويلا وتأملا وتدبرا، بمقدار ما يتسع له عقل ذلكم الجيل حتى لا يفتن الناس بما لم يألفوه، إذا تجاوز الطرح مدركات الإنسان وتحولات الزمان وحاجات المكان ليبقى هذا النص معجزا بحركته وتجدده وقدرته على العطاء لكل جيل، لأن القرآن نفسه هو المعجزة وهو المنهج والبيان والحجة، على عكس المعجزات السابقة التي كانت معجزات مادية رآها الناس بأعينهم لأن الله فصلها عن المنهج فانتهت بنهاية من رآها. فلماذا يفسّر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القرآن كله وهو يعلم أن الله تعالى أنزله عليه ليكون للعالمين نذيرا؟ فقد نقل ابن عطية عن عائشة رضي الله عنها قولها: ما كان رسول الله (ص) يفسر إلاّ آيات معدودات علمّه إياهن جبريل (عليه السلام)، بمعنى أنه (ص) لم يكن يفسر القرآن "برأيه" وهو رسول الله ليظل القرآن مفتوحا على العصور القادمة إلى قيام الساعة، فالله هو الذي نزله مطلقا لحكمة يعلمها، فلماذا يقيّده رسول الله وهو المتحرك بأمر الله والفاعل بإذنه؟؟ وحتى الآيات المعدودات التي فسرها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) لم تكن في معظمها، تفسيرَ اجتهاد تطوّعَ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تلقاء نفسه، وإنما هي في أغلبها تصويبات لاجتهاد صحابة جانبهم الصواب في تأويلها أو ظنوها نازلة بمناسبة تخصهم كانوا فيها تحت بصر الحق، فتفاعلوا معها بكثير من الانضباط، فقوَّمها رسول الله(ص) بما عصمه الله تعالى بسديد الحق، مثلما هو الحال عندما بيّن لعدي بن حاتم أن الخيط الأسود والخيط الأبيض في فقه الإمساك خلال شهر رمضان المعظم وسائر أيام صوم النوافل، هما الليل والنهار وليسا خيوط الوسادة، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله. بهذه الخصائص المرنة والاجتهادات الواسعة يصبح كل تفسير لكتاب الله هو أخذ لمعانيه بما يفهم منه على قدر الحاجة والوسع المتناسبين مع مقاصد الإيمان بالمعجزة وضرورة الناس لما لا يتم الواجب إلاّ به، واستعدادهم لتنفيذ المنهج القرآني في إطار الفهم الشامل للكليات والثابت من النصوص والمحكم منها كونها امتدادا لأم الكتاب وأصول الفهم عن الله حتى لا يندّ التأويل بالناس بما يخرج التفسير عن الاعتدال إلى الشطط ومن الوسطية إلى الغلو، لفائدة خدمة هوى النفس أو تأويل النصوص وتطويعها لتوافق شبهات العقول وإقرار ما لم يأذن به الله، فالقرآن كلام الله الذي خاطب به عباده المؤمنين كما خاطب به الكافرين والظالمين والفاسقين والمنافقين، فقال لهم جميعا "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا" الإسراء: 09، وبهذا الخطاب يكون الله قد وضع الناس جميعا على قدم المساواة، فلم يظلمهم بخطاب ولم يحاب أحد منهم بمنحة ولا بمحنة ولو كفر به "ولا يظلم ربك أحدا"، ولكنه لا يبشر إلاّ من آمن به وأتبع رضوانه. فلا يجوز أن يظلم أحد بتفسير كلام الله أحدا، فإذا قام من يؤول الحكم أو يلوي أعناق المتشابه لتطاوع "مذهبه" كشفته أساليب اللغة التي أنزل الله بها كتابه وثبته بما لا يقبل الشطط "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ" آل عمران: 07، فالتكاليف لا تؤوّل إلا إذا ورد في القرآن نفسه ما يفيد تخفيفها أو نسخها أو استبدالها بغيرها..كما حدث في مسألة قيام الليل بعد فرض الصلاة المكتوبة، ومواجهة المؤمنين لأعدائهم في ميدان القتال واحد من المؤمنين لعشرة من معسكر المشركين فصار -بعد الضعف والكثرة- واحد لاثنين، وحصْر الميراث في ذوي الأرحام وتحويل القبلة ..وسواها، ويبقى كل تفسير مجرد محاولة لبيان مراد الله لعباده من خلال كلامه الأصلي بشرح الظاهر وتأويل المتشابه وفق قواعد صارمة للفهم عن الله، يتقرر بها موضوع النسخ والإنساك والإجمال والتفصيل "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" البقرة: 106، بشرح ما هو قابل للشرح وتأويل ما هو قابل للتأويل وببيان المحكم وتقريب المتشابه وسواها من قواعد الأحكام والتدليل على كل ذلك بالقواعد الكلية للتشريع والمقاصد العامة للدين. لقد نزل القرآن بلغة قريش "المشتركة" في قمة نضجها واتساعها وبيانها ودقة آدائها، ومع ذلك زعم المشركون أن أحدهم -ممّن اختلفوا في تحديد هويته- كان يلقن مُحَمّدًا (ص) القرآن العظيم، فكان رد الله تعالى على مزاعمهم مفحما بقوله: "لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَ ذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" النحل: 103. يتبع….