المرحلة الثانية تنطلق في جانفي 2025 : تنصيب اللجنة الوطنية لإحصاء المنتوج الجزائري    سوناطراك: تسجيل 30 براءة اختراع و40 مشروع بحث وتطوير    انقطاع الكهرباء عن مستشفى كمال عدوان.. 28 شهيدا جراء القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة    الذكرى الرابعة للتطبيع مع الكيان الصهيوني: احتجاجات عارمة بمختلف مدن المغرب تنديدا بالتحالف الخياني للمخزن    باتنة : تسليم مرتقب ل 29 سيارة إسعاف مجهزة    القطب التكنولوجي العلمي بسيدي عبد الله : دورة تكوينية لفائدة مسؤولي الأرشيف في الجامعات    سلطة ضبط السمعي البصري تنبه قناة "الحياة"    عشية انطلاق أشغال الجنة التنفيذية للاتحاد البرلماني العربي : اجتماع تنسيقي لوفد مجلس الأمة    البنك الوطني الجزائري : إطلاق بطاقة بيبنكية للدفع المؤجل    الحماية المدنية: إطلاق قافلة طبية لفائدة سكان المناطق النائية بولايتي النعامة و البيض    أصدقاء الثورة الجزائرية, جسدوا الضمير الحي الملتزم بالقضايا العادلة    رئيس الجمهورية يستقبل وزير العلاقات الخارجية الكاميروني    سبر آراء "وأج" لجائزة براهيم دحماني: التعرف على المتوجين اليوم الاحد في سهرة خاصة على شرفهم    ثلوج مرتقبة على مرتفعات وسط وشرق البلاد بداية من يوم الاثنين    فروسية/ الجائزة الكبرى لمدينة وهران للقفز على الحواجز: تتويج الفارس أيمن بن شيخ    الصندوق الوطني للتقاعد ينظم الطبعة الثالثة لأسبوع المساعدة الاجتماعية في البيت    المؤسسة الوطنية للصناعات الإلكترونية تعتزم بعث إنتاج أجهزة التلفاز قريبا وإطلاق تصنيع الغسالات    غزة أصبحت مقبرة ويبدو أن كل الطرق تؤدي إلى الموت    الناشطان السويديان المتضامنان مع القضية الصحراوية يحطان الرحال بتندوف    باتنة: الشروع في تصوير المسلسل الدرامي التلفزيوني "إيلان نتمدورث" (منعرجات الحياة)    إنفانتينو يعزي في وفاة خالف    شباب بلوزداد يطمح إلى مفاجأة الأهلي المصري    مولودية الجزائر واتحاد خنشلة يتعثّران    مرّاد يلتقي النوري    اتفاقية بين الجوية الجزائرية و الطاسيلي    هذه توجيهات وزير المالية..    الجزائر تدعو لاحترام وحدة أراضي سوريا    رئيس حمس يؤكّد أهمية التحلي بالوعي    ارتياح لمضمون مشروعي قانوني البلدية والولاية    تدفق كبير على الوكالات لحجز رحلات العمرة    العمل مع جميع الفاعلين للتكفّل بالانشغالات المطروحة    المغرب وفرنسا.. تاريخ من الخيانة والجوسسة    حنون تدعو إلى نقاش وطني واسع حول قانوني البلدية والولاية    الاستفادة من التكنولوجيا لمحاربة التهريب    حجز 2,4 كلغ من الكيف و360 قرص مهلوس    بن يحيى يبرّر تعثر العميد ويعد بالتدارك    مازة أغلى لاعب في "البوندسليغا 2"    تسجيل 96 مخالفة تجارية    سرقة 50 رأس غنم ببوشقرون    الجزائريون بصوت واحد.. "أنا مع بلادي"    160 مستثمر مطالبون بتجسيد مشاريعهم    لقاء وطني للتعليم القرآني عن بعد    احتفائية تجمع تجليات المعنى وجمالية الصورة    المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية العروبي بالبليدة    قندوسي لا يفكّر في "الزمالك" ويريد البقاء مع "سيراميكا"    النعامة: مشاركة زهاء 22 فرقة فنية في المهرجان الثقافي الوطني لموسيقى قناوة    الزي التقليدي للشرق الجزائري في الواجهة    كيف وصفت الأمم المتحدة أهمية لغة القرآن؟    ترحيل مرتقب ل 390 عائلة إلى مساكن جديدة بأرزيو    روائع قصص الصحابة في حسن الخاتمة    فتاوى : لا يسقط السجود على الوجه إلا بالعجز عنه    إنها سورة المائدة    إعداد ورقة طريق للتعاون والشراكة بين قطاعي الإنتاج الصيدلاني والتعليم العالي والبحث العلمي    فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله    حرمان النساء من الميراث حتى "لا يذهب المال إلى الغريب" !    اتفاقية تعاون بين كلية الصيدلة ونقابة المخابر    90 بالمائة من أطفال الجزائر مُلقّحون    الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد تفسير القرءان ضرورة في زماننا
نشر في الحوار يوم 07 - 05 - 2015

كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعلم علم اليقين، أن أفهام الناس تتباين حول معاني القرآن الكريم وتتفاوت تجاه فهم مقاصده، كلما جدّت للناس أقضية حياتية في حركتهم في الزمان والمكان، وكانت أسئلة بعض أمهات المؤمنين (رضي الله عنهن) وكثير من الصحابة (عليهم رضوان الله) حول معنى هذه الآية أو تلك يدل على أنه لا يوجد "فهم مشترك" جامع مانع لما أنزله الله عليه، ومع ذلك اكتفى (صلى الله عليه وسلم) بتوضيح معاني بعض الآيات القليلة وسكت عن باقيها، لأن الله لا يحب أن يتحول هذا الدين إلى "قوالب جامدة" وأوامر صارمة و"قرارات "جافة تشبه القوانين الوضعية، تشرع لزمن الصحابة والتابعين، ثم تقف عاجزة عن فتح أبواب الاجتهاد بشروطه للاحقين إلى قيام الساعة، لم يفعل رسول الله (ص) ذلك ولم يأمر به حتى لا يكون ذلك سببا في غلق أبواب الاجتهاد في كل ما بتّ السابقون بشأنه، وما على اللاحقين إلاّ السمع والطاعة، بل إن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يكون مرنا وواقعيا ومتحركا مع حركة الحياة وحاضرا في ضمائر المؤمنين ومتفاعلا مع أقضية الوجود..ليكون "التجديد" فهما للنص وليس نصا جديدا، أو يكون تأويلا لكلام الله بضوابط التأويل وشروطه وليس "قرآنا جديدا" يكتبه بعض الناس بأيديهم ثم يقولون "هذا من عند الله ليشتروا به ثمن قليلا"، كما كانت تفعل الأحبار والرهبان في الكتب السابقة، وإنما تُرك باب الإجتهاد فيما ليس فيه قطعيات نصية مفتوحا في مجالات تدبير شؤون الحياة وما يستجد من أقضية الناس ومعائشهم خارج قطعيات النصوص، لاسيما ما تعلق منها بشأن العقيدة والعبادة والحلال والحرام والأخبار..ولو فسّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) القرآن كله لانقضت عجائبه وجمدت نصوصه وتأكدت أحكامه النهائية من غير تفريق بين كمال النص والتدرج في تطبيقه، وصار الإسلام "قالبا" جامدا من دخل فيه فهو مسلم ومن لم يسعه فهو خارج دائرة الإسلام !! ورحمة بالبشرية أوسع من أن يفسّر رسول الله (ص) القرآن في زمانه لمن يأتي بعده، ولا الصحابة من بعده، فلو فعل ذلك ما كان لأحد أن يفتح فاه، إذ لا يعقل أن يأتي من يستدرك عليه (صلى الله عليه وسلم) أو يشكّك في "دقة" فهمه لكلام ربه المنزل عليه وسعة فقهه وكمال تلقيه عن الله، ولو فعل الصحابة ذلك لكان من الحرج الكبير الاستدراك عليهم، إذْ لا يعقل أن "يُولد" بعدهم من هو أعمق منهم فقها وأوسع منهم فهما لكتاب الله وأحرص منهم على دقة فهمه وعمق فقهه وسعة الإحاطة بمقاصده، لذلك لم يأذن ربنا (عزّ وجل) بحدوث مثل هذا الغلق لباب عطاءاته في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية، ولن يحدث كذلك في الأزمنة المتأخرة، لثلاثة أسباب جوهرية لها علاقة مباشرة بطبيعة كلام الله ومنهج الإيمان.
أولها الهداية، فالهداية كالإيمان لا يُفسّر إلاّ بالإيمان، ولا تفسير لهما ولا تأويل إلاّ من خلال الثمار النافعة التي تنتهجها شجرة العقيدة في الكلمة الطيبة التي شبهها المولى (عزّ وجل) بالشجرة الطيبة، فقال "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا" إبراهيم: 24، فكيف نفسر طرائق الهداية للناس تفسيرا نهائيا، والله قد عدد وسائل الوصول إليها وترك أمرها عنده وحده؟ وكيف نشرح أسرار الإيمان للناس شرحا واحدا ثم ندعوهم إلى "الجمود" عليها بينما الله يأمرنا أن نوصّل لهم القول، ونقول لهم الحق ونبين لهم الصراط المستقيم..ثم نترك لهم مطلق الحرية ليتفاعلوا مع القول الواصل والحق الواضح والصراط القويم، فيتعرفوا على خالقهم ورازقهم بأنفسهم ثم يختاروا الوجهة التي يريدون، ليكون الحساب قائما على اختيار حرّ، وعلى مسؤولية مبينة للناس..ولن يكون ذلك إلاّ بالقرآن والسنّة كأصلين ثابتين، أما ما تفرعا عنهما من تفاسير وشروح فهي "منارات" لزيادة العلم وتيسير الفهم وتحبيب الهداية للناس، وهذه أولى الخلاصات.
وثانيها، إن القرآن خطاب عام للناس جميعا، بل هو بيان للناس كافة، وفي الناس عالم وجاهل وأميّ، وفيهم مشرك وكافر وأهل كتاب، وفيهم مزارع وتاجر وحرفيّ، ومن بينهم عاقل وحكيم وسفيه، وفي نفوس بعضهم طيبة أو خبث أو فجور..ومن الناس من يقاد بعقله ومنهم من يقاد بأذنيه أوبشهواته وغرائزه أو بعواطفه..الخ، فإذا جاء القرآن بمنهج عقلي "ممنْطق" كان ككتاب فيزياء ورياضيات وعلوم دقيقة..عندئذ لم يعره غير هؤلاء بالهم ولم يفهمه إلاّ أولو النّهى، وإذا ركز على هزّ العواطف ودغدغة المشاعر لم يؤمن به إلاّ الحالمون، وإذا سلك للناس طريق النظر في ملكوت السموات والأرض لم يستفزّ من عقول البشر إلاّ من أعطاهم الله رشد التأمل وكمال التدبر، كحال إبراهيم (ع)، ولو أقام هذا القرآن منهج الهداية على الترغيب والترهيب فحسب لكان الإيمان رغَبا ورهَبا..الخ، لكن القرآن جاء بكل هذا وأكثر من هذا، فقد التمس الهداية للناس جميعا بملامسة "أقفال" النفس البشرية كلها والإلحاح على العقل أن يسير في الأرض متفكرا ومتدبرا..ليكون للإيمان عشرات المداخل ومئات المسالك، فإذا عز مدخل ذل آخر، وإذا أغلق مسلك فتح غيره.

فهل تفسير القرآن تفسيرا واحدا يتيح للناس كل هذه الفرص ؟
وثالثها، أن القرآن الكريم كتاب خالق البشر والعالم بالخفايا والطوايا، والنوايا، لذلك أودع فيه من الإشارات إلى سننه في مخلوقاته الغائبة والحاضرة والجامدة والمتحركة والمسخّرة والمسيّرة والمخيّرة..مالا تنقضي بتعددها وتنوعها واختلافها عجائب القرآن، وكل ما ساقه النص القرآني من أمثلة أو عرضه من مبادئ أو تحدثت عنه آياته كأخبار ماضية أو تنبأت بحدوثه كمعجزات قادمة..لم تتنزل على زمن الصحابة والتابعين فحسب، بل هي خطابات للسابقين واللاحقين، ومادام العقل البشري يتطور والعلم يتقدم، فإن هذه الإشارات تتحول مع تطور البشرية إلى أدوات فهم ووسائل هداية تتفاعل معها المكتشفات وتتجاوب معها المخترعات وتخضع لسلطانها الحقائق العلمية المجردة، لذلك كان كل تفسير لكتاب الله تعالى هو فهم لكلام الله بمعايير ذلكم الزمن وما يستجد لأهله من حاجيات، يستهدف تلمس أيسّر الطرق لهداية البشرية إلى صراط الله المستقيم بموازين عصرها ومستوياتها من العلم والفهم والكشف والاختراع..
فكيف يعقل أن يستوعب زمن واحد كل ما سماه القرآن "كلمات ربي"؟ وهل يصبح للحرية التي جاء القرآن لإقرارها حتى لمن اختاروا الكفر بعد عرض المنهج عليهم من معنى إذا قيّد السلف تفسير كلام الله بمفهومهم، وحجروا على الخلف إعمال عقولهم في كتاب يقول لهم جميعا "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألباب" آل عمران: 190، ففيمَ يشغّل أولو الألباب عقولهم إذا قيل لهم إن حق الاجتهاد في كلام الله مخصص لمن عاش في القرون الثلاثة الأولى، أما مواليد القرن الرابع الهجري وما بعده، فهم لفهم السلف أتباع وليسوا أبدأها ؟؟
إن جميع من منّ الله عليهم بالنظر في كتاب الله فهموا كلامه بما هو متاح لهم بمعايير زمانهم، فمنهم من فسّر بالأثر ومنهم من أعمل رأيه فيه ومنهم من جنح نحو الإشارة ومنهم من سلبته بلاغة القرآن فهام في الذوق جمالا وجلالا أو كلف بالبلاغة والبيان والبديع، وأغرم آخرون بالمعجزات ودقائق العلوم والاكتشافات، والتاريخ والآثار..وغرق بعضهم في النحو والصرف وإعراب القرآن وتخصص آخرون في المقاصد..وسوى ذلك، ولكن رغم كل هذه المجهودات ظل القرآن كتاب هداية و"دليل" إيمان ونموذج حوار هادئ ودعوة إلى كلمة سواء، لأن الله أراد لهذا الكتاب أن يكون كامل الدين تام النعمة، ليجد فيه كل سالك لطريق الهداية والإيمان "حبله المتين" الذي يروق له التمسك به معتقدا أنه "العروة الوثقى"، كمقدمة للاستمساك بحقيقة العروة الوثقى لا انفصام لها، لذلك أودع الله فيه شيئا من كل شيء، ففي القرآن تاريخ وسيّر وملاحم، ولكنه ليس كتاب تاريخ، وفيه علوم وكيمياء وفيزياء ورياضيات وعلوم بحار وحيوانات وحشرات وأسماك وفلك وجيولوجيا..ولكنه ليس كتابا للعلوم والمعارف، وفيه نثر عظيم وسجع قويم ومقابلات مدهشة وبلاغة معجزة، ولكنه ليس كتاب بلاغة وشعر وأدب، وفيه رؤى وأحلام وحديث عن السحر والكهانة وخوارق الأمور..ولكنه ليس كتاب طرائف وحكايات؟..وفيه خلجات نفس وأسرار قلب وخفايا صدور ومشاعر وعواطف وأحاسيس وحب وبغض، وشهوات واصطراع نفوس، لكنه ليس كتابا لعلم النفس، وقد تحدث عن الأحجار والأشجار والبحار والمحيطات والسحب والأمطار والشموس والأقمار وحركة الأرض..ولكن لا أحد يجرؤ على أن يصفه بالموسوعة العلمية ولا أن ينعته بأنه كتاب العهود الغابرة، إنه كل هذا وأكثر من هذا في موضوعاته، ولكنه ليس شيئا من هذا، في مقاصده وغاياته، لأن فيه كل ذلك وأكثر من ذلك لكنه ليس شيئا من ذلك، فمقصده الأساسي هداية الإنس والجن إلى صراط الله المستقيم، ولذلك أعطى (الله جلّ جلاله) للثقلين من الإنس والجن حرية واسعة وحقا كاملا في أن يتفكروا فيه ويتدبروا آياته ليعرف كل مكلف طريقه إلى الهداية بسماع الحق أولاً، ثم الأخذ بالأسباب التي ييسرها الله له بعد ذلك إن شاء "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" القمر: 17 .
فهل يكون هذا القرآن ميسورا للذكر لو "أغلق" القرن الأول حق البشرية في الاجتهاد في فهمه وتفسيره؟ وهل تتناسب هذه الدعوة المحّببة للتذكير والمطمئنة بالتيسير مع سلوك يحظر على الخلق إعمال الفكر فيما قطع السلف في جميع نصوصه بأن المقصود من كلام الله للناس هو هذا، ولا مجال للاجتهاد مع نصوص "مقدسة" نطق بها من هم خير منا تقوى وأكثر علما وفهما بشهادة الله لهم!!
ولذلك تعددت التفاسير وتنوعت أساليب تناول كلام الله بالتأويل، من منطلق أن كل تفسير هو محاولة من عالم لفهم كلام الله وتقديمه للناس بمعايير زمانهم، ولكنها معايير مضبوطة تتكيف مع مستجدات الزمان ومقتضيات المكان وميسّرات القرآن للإنسان، وبهذا الفهم يصبح كل اجتهاد في تأويل معنى من معانيه إذا وافق القواعد اللغوية والسليقة العربية هو تأويل قابل للمراجعة والتعديل والتصويب للتي هي أقوم، لأن التأويل القطعي المطابق للمعنى المراد ليس متاحا للبشر، إلاّ بجهد جماعي مضن واجتهاد مجمع علمّي محيط "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" آل عمران: 07، فدقة الفهم والتفسير المطابق لمراد الله لا يمكن الجزم بصحتها عند التأويل بشروطه، لأن علمه عند الله وحده، وما دون ذلك فاجتهادات بشرية منضبطة بقواعد حاجزة عن الغلوّ في الدين والتطرف في الفهم والتفيقه المسرف والتنطع الفالت من قيود العلم والأدب، مما يجعل التركيز على الآيات الجامعة للعزائم مقصدا للمتشددين لحمل الناس على العسرة بدل اليسر، ومنعهم من حقهم في الأخذ بالرخص بشروطها، وهو ما ينشأ عنه تيار القول المتزندق والتشدد المغلق والإنحراف عن الجادة، وتنشأ عنه الفرق الضالة والجماعات المنحرفة..
ففي القرآن ثوابت ومتغيّرات، وفيه محكم ومتشابه، وفيه عام وخاص ومطلق ومقيد..الخ، ولو أنزله الله قرآنا ثابتا غير قابل للتأويل بشروطه أو فسره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفسيرا واحدا غير قابل للاجتهاد "لجمد" النص على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما فعل في تفسيره لبعض الآيات القليلة التي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين!! ولكنه لم يفعل أكثر من ذلك لأن الله لم يأذن له بذلك، ولم يأمره بتفسير القرآن للناس، ولو أمره لفعل ولو فعل لتوقفت حركة التفسير بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم)، ولكن رحمة الله أوسع من أن تضع البشرية كلها في قالب دين جامد وعقل جاحد، فنزل القرآن مرنا، وتعامل معه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمرونة وواقعية ويسر، وهذا ما حدث واقعا في حياة جيل التأسيس، أما من جهة ما لم يكن متوقعا فهو أن هذا النص المقدس لو كان قابلا للتفسير تفسيرا واحدا لأنزله الله (جل جلاله) "مفسّرا" في حجم أكبر يمتد فيه الكلام الجامع إلى تفاصيل كثيرة تنقله من الإطلاق إلى التقييد، ومن الاختيار إلى الإضطرار، ومن المنهج إلى "القالب" ومن القدوة إلى الصناعة..وهكذا.
إن مجرد طرح هذه الفرضية ينزع عن القرآن الكريم أهم ما من أجله نزل وهو توحيد الله وعبادته عن طريق الاختيار المحب لا عن طريق الإجبار المكره، وهذه النعمة الكبرى، نعمة حرية الاختيار للدين، لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالنظر العقلي والتطلع العاطفي والتدبر الوجداني في ملكوت السموات والأرض، وكلها تفريعات لمبدأ أصيل في هذا الدين العظيم، وهو مبدأ الحرية العقلية بتحرير النفس من "قيود" الإملاء وشروط الأحكام المسبقة ودعوتها إلى نفض الغبار عن "فطرتها" التي فطرها الله عليها بعدم وضع أيّ حاجز بينها وبين كلام الله، ولو كان هذا "الحاجز" اجتهادا في فهم كلام الله لأي عالم أو فقيه ما لم يكن مستندا على القرآن نفسه أو ما صحّ عن رسول الله (ص)، فلا واسطة بين العبد وربه إذا تعلق الأمر بالعقيدة، لقوله تعالى "وإذ سألك عبادي عني فإني قريب" البقرة:186.
فبأي حق يظهر في الناس من يُحرم كل مخلوق آمن بأن القرآن كلام الله- من تدبر كلام الله وتذوّق خطابه لخلقه دون أية وساطة بينه وبينهم؟ وما قيمة دين "جاهز" يمنع عن الناس أن يعرضوا أنفسهم عليه ليهديهم إلى صراط الله المستقيم ويعرضوا كتابه على عقولهم ليتذوقوا وقعه على قلوبهم فتخشع له وتوجل فتزيدهم إيمانا كلما ازدادوا تحرُّرا، فحرية النظر هي تفسير ذاتي نابع من شوق الإنسان إلى اكتشاف الحقيقة بنفسه والإذعان لله تعالى بمشاعر الاختيار الحر بعد أن يعرض النص القرآني الكريم نفسه على المتأمل فيه، ويقدم له الخيارات الكبرى بين الإيمان والكفر ثم يعطيه الحق المطلق في الاختيار بعد عرض البدائل وإظهار عزة الحق وحقارة الباطل "وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر" الكهف: 29.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.