تنقيح الموروث الديني هو السبيل الوحيد لتحرير عقل الأمة الجماعي المسجون وراء قضبان الوهم والخرافة. إعادة النظر في ما تركه أسلافنا من اجتهاد بطريقة راديكالية كي نستأصل الداء من جذوره وتجفيف منابع التطرّف وقطع الطريق أمام المتربصين بهذا الدين. أعداء الإسلام وجدوا في التراث الإسلامي المادة الدسمة لنفث سمومهم القديمة -الجديدة! من منا ينكر وجود تناقض رهيب بين النص القرآني وكثير من الأحاديث التي تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم؟، من منا يتجرأ وينكر بشاعة بعض القصص المروية في كتب السيرة؟، نحن الأمة الوحيدة التي قننت بتر عقل المرأة التي كرمها الله مثلها مثل الرجل بحديث شريف نسب للرسول صلى الله عليه وسلم " النساء ناقصات عقل ودين" في تناقض تام مع قول الله رب العالمين " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من العالمين"، وسيأتي من يبرر لك خطف كرامة المرأة بالعادة الشهرية والتي هي سنة خلقية أرادها الله لها لا إنقاصا من كرامتها ولا ذكائها… وهي التي دثّرته وزمّلته من روع ما عاشه عند بداية الوحي! ليسألوا رائدة الفضاء، أين عقلها ورابعة العدوية أين دينها! المصيبة أكبر وأمرّ، كتب الموروث الديني والتي أصبحت قلعة من قلاع المعلوم من الدين بالضرورة، منها ما فيه تطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم وجردته من رحمته التي بُعث بها من لدن رحمان رحيم " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ثم يأتي من يريد إجباري على تصديق حديث " نصرت بالرعب مسيرة شهر" أو " بعثت بالسيف رحمة للعالمين، كي يكتمل إيماني! رحمة السيف رحمة مازوخية، ونصر مأزور بالرعب، ماهو إلا بربرية وهمجية هكذا صقل عقل الأمة وأصبح يسلم بالتناقضات بدون مبالاة! لهذا أصبحنا نفتش للبشاعة وللفضاعة عن تبريرات وما جزاري البغدادي ومن يشبههم ببعيدين عن البضاعة المعروضة في كتب تشرح بالتفصيل جز الرؤوس وبتر الأيادي…
من يظن أن داعش هي وليدة ظروف جيوسياسية فقط، ينميها الحرمان الاجتماعي والتصحر الاقتصادي وينسى الإرث المشبع بالسادية المقننة فقهيا، لا يختلف في تحليله لهذا الوباء الذي أصاب الأمة عن كهنة العصر الذين يوهمون مريديهم بأن ظاهرة الزلازل هي غضب من الله على أفعالهم وعربون من العقاب في الحياة الدنيا قبل حساب الآخرة. إن لم نتسلح بالجرأة الفكرية المبنية على البيّنة والحجة العلمية لنسف الكم الهائل من المخلفات الكهنوتية المفخخة التى زرعها أسلافنا في وعينا الجماعي والمتمثّلة في هذا الموروث الديني والذي حافظنا عليه بأمانة أكبر بكثير من حفاظنا على الأمانة التى جعلها الله في أعناقنا، وهي تعمير الأرض والاستخلاف، فلا تستغرب إن رأينا أشلاء أبنائنا في مناطق النزاعات تغذي غول الحروب والتطرّف . من أكبر النعم التي منّ الله بها علينا هي نعمة العقل وهو بمثابة برزخ يفصلنا عن باقي الكائنات التي جعل الله لها نصيبا معنا على وجه هذه المعمورة، فإن لم نسعَ لاستخدامه لتفكيك الألغام المغروسة في مَنْظُومَتنا الفكرية منذ حقبات متواصلة والتي تمثل خطرا يحدق بمستقبلنا ومستقبل الأجيال الآتية فلننتظر الانفجار النهائي الذي سيفكك ما تبقى من أوصال هذه الأمة وخروجها من التاريخ.
نعم الخوض في هذا الموروث الملوث بإشعاعات الألغام التي تفجرت في وعينا الجماعي لا يخلو من المخاطر ومحفوف بالمصاعب، فسيف التكفير مشهور في وجه التفكير، وسدنة الوهم يتربصون بأصحاب الفكر النيّر والعقول التي أبت أن لا تتحجر امتثالا للنقل الذي أنزلوه منزلة الوحي المبين. بناء المستقبل لا يبنى بمواد الوهم والخرافة، إذا ما نظرنا لحال الأمة اليوم نستنتج أن المورث لعب دورا بارزا في صقل عقلنا الجماعي وجعل منا قطيعا تسوقه العصبية والطائفية وله قابلية للتعايش مع الاستبداد. من منا ينكر اليوم، أننا مازلنا نسبح في مستنقع الأزمات المتشعبة، وأساسها المرض الفكري الذي كان نتاجه سقوط حضاري واستبداد سياسي خلف فوضى اجتماعية ركودا تنمويا تبعه فشل تربوي تعليمي، تفاقمت الأزمات لتتحول إلى مآسات، وما هذه التراجيديا إلا نتاج لهذه التركة التي جعلناها صنما نتقرب به إلى الله زلفة. صحيح أن العوامل المتعددة التي كانت وراء هذا الفكر السائد هي موروث ثقافي اجتماعي، لكن ما زاد تعقيدا لهذا الوضع هو إقحام الدين الحنيف وتشويهه من قبل كهنة اختطفوا الرسالة الربانية وغيّروا وجهتها وغايتها وأهدافها … اجتهاد الإنسان حوّلوه إلى كلام منزه عن الشوائب، لذلك أصيب عقل الأمة في الصميم فتحول العالم الزاهد إلى كاهن يوزع أحكام هي من صلاحية الرحمان. أكبر جريمة في حق الدين هي خروج الفقيه من عالم الاجتهاد الفكري الواسع إلى كرسي الرقيب على الناس وجعل من النص الديني بنج يخدر وينوّم به عقل الأمة. لنكن واضحين الفكر الديني ليس هو الدين، إنه فقط فهم ونتاج بشري بوسائل وأدوات بشرية وهو ليس منزه من الانحراف والإخفاقات وليس فوق النقد ولا ينبغي أن يكون فوق النقد والبقاء للأصلح (فأما الزّبد فيذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض). أصبح الموروث هو من يتحكم في الأمة وبطريقة لا شعورية، إنه الفكر اللاشعوري الراسخ في أعماق الأفراد، المتجدر في قلوبهم، بحيث يتعاملون به مع الواقع على سجيتهم عفو الخاطر …. علاقة الفكر بالواقع علاقة جدلية يأثر الأول على الثاني ويطغى الثاني على الأول وهذا في جدل مستمرّ العلاقة تسير نحو التعقيد والأسوأ إذا كان الفكر نتاجا لعقل لا يرى الأشياء على ما هي عليه في ذاتها، لأسباب إيديولوجية (عقائدية) أومعرفية (استمولوجية) تحتاج إلى مراجعة وحلول جذرية. أعتقد أن كثيرا من مفكري المسلمين مهتمون بموضوعات الإصلاح الديني والاجتماعي أوالسياسي، لكن مع الأسف فإن أغلبهم مازال يبحث موضوعه من خلال ملاحظة ظواهر التخلف والضعف والجهل والسطحية البادية في مجتمعاتنا، للوصول إلى أسبابها ثم إعطاء مقترحات لمعالجتها وشفائها … والتجربة قد برهنت بما لا يترك مساحة للشك، أن كل المحاولات لمعالجة ظواهر القصور السطحية داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لم تكن سوى معالجات "روتوشات " تجميلية، وبالتالي كانت محاولات فاشلة وزادت الطين بلة ! لم يتغير شيئ على أرض الواقع، أسلوب التفكير في الحلول الذي يهادن الطاعون الذي يهدد كيان هذه الشعوب كأفراد وكمجتمعات هو المشكل الأساسي … إن كانت أدوات تشخيص الداء معطلة، فالدواء الموصوف سيكون بمثابة الجرعة القاتلة…إن أمتنا تعيش ما أصاب الذين من قبلنا، فدخلنا جحر كل ضب دخلوه قبلنا! إن كان اليهود قد حرّفوا التوراة وكتبوا التلمود، وحرّف المسحيون الإنجيل، نحن أمة محمد عندما عجزنا عن تحريف القرآن لأنه محفوظ بإرادة ربانية، جعلنا كتب البخاري ومسلم واجتهادات السلف في مقام البيان المنزل، بل ذهبنا إلى أبعد وأخطر من التحريف عندما زعمنا بهتانا بأن تلك الكتب تساعد على فهم القرآن … وكأن كلام الله مشفر ولقراءته يجب إحضار "الديكودور" ثقة المسلم في الخطاب الديني هي نتاج غسيل الأدمغة وتعطيل العقل من بعض وعاظ المساجد، حتى أصبح المريد الذي استغنى عن تفكيره يعتبر ما أكد عليه واعظه من الأمور حقائق لا تحتاج إلى الشك أوالمناقشة. إني أتألم لما آل إليه حالنا، أنزل الله على نبّيه هذا القرآن بلسان عربي، كتاب حي ليس بورقه وحبره ولا بزخرفه وزينته ولكن بأفكاره وكلماته وآياته التي برهنت على قدرتها التفاعلية مع عقل الإنسان، وتتحداه في كل زمان ومكان، علما وتقنية و ثقافة وفكرا. غريب أمرنا، يسر الله هذا الدين لكل مريد، إلى كل قاصد لمنبع الحق واليقين، لكن نحن أمة الضاد لا تعرف ما تريد، أصبحنا في مستنقعات الجهل والتطرف نصطاد، لعل الشيء الوحيد الذي نحرز على ديمومته منذ عصور، وهذا من باب "حفظ الأمانة" هو تغييب العقل …! هجرنا القرآن طوعا، وفسحنا المجال لسدنة الوهم وكهنة الجهل والتطرف، ليزرعوا بذور التخلف والعصبية، ليجعلوا من الأوراق الصفراء سدا منيعا عن الفهم لكتاب الله، وأصبحت تقف مقام الغشاوة على العين فتمنع وضوح الرؤية، وتقف مقام الوقر المانع من السمع، فلا يسمع قارئها الحقيقة …. فأصبح كتاب الله عبارة عن حرز لا يفك طلاسمه ورموزه إلا حراس المعبد، ولا أحد يتجرأ و يسأل، لماذا عجزنا منذ مئات السنين على اللحاق بالركب الإنساني، بعضهم بحسن النية، يقول إننا لا نتقدم و لا نزدهر إلا إذا طبقنا شرع الله !!!! ما أسهل الجواب…إنه من الخطر أن يكون المرء مريض ويجهل ما هو الداء الذي أصابه، إن كان تقدمنا مرهونا بتطبيق شرع الله كما يزعمون، لعل اليابان، أمريكا وكوريا، يشرع فيها بما أنزل الله … إن الأوهام تأكل العقول، وكل وهم يأخذ من العقل بقدره، ولا تزال الأوهام تتوالى عليه حتى يصبح عاجزا على التمييز ويتخلى في النهاية عن وظيفته!