لست يساريا ولا أنتصر للفكر اليساري "العنيف" "المتسلط"، لكن أدبيات هؤلاء فيها من النجابة والحكمة الكثير، وقد استفاض كتابهم – خاصة الجدد منهم في تعرية سلوك القوى الرأسمالية المركزية منها والوسيطة اتجاه دول الأطراف والهوامش، وأجمعوا على أن أسباب التخلف في دولة ما بعد الاستعمار ترجع بالأساس إلى استمرار أنظمة حكم تقوم على فكرة "الكومبرادور" أي تولي نخب "وطنية" رعاية المصالح "الاستعمارية" وربط اقتصاديات الوطن وحركته التنموية بمراكز رأسمالية تستغله وتستفيد من مزاياه، وبعد أن خاضت الدول الثورية معارك استنفذت كل طاقاتها وحيلتها من أجل تحديث مجتمعاتها، وبفعل العولمة وحركة الاندماج العالمي تحولت الشركات متعددة الجنسيات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة – رمزي الاستعمار الاقتصادي والاستغلال – إلى حلم يراود الشعوب فتقدم له التسهيلات والمزايا ليتوطن عندها، ولم تشذ الجزائر عن ذلك بل هي اليوم على ما يبدو – في رواق يؤسس لنظرية جديدة للتبعية والاستغلال. فالموقع الجغرافي والإمكانيات الاقتصادية والمالية والتاريخ النضالي ( قيادة حركات التحرر الإفريقي)، والتحولات الجيوسياسية في المنطقة العربية وحالة الثورة التي تعرفها المنطقة، وما تمثله من مخاطر على المصالح الغربية ( الطاقة، الثقافة العلمانية، الاستقرار …)، والتجربة الناجحة في مواجهة التهديدات الجديدة التي عرفها عالم ما بعد الحرب الباردة في المنطقة، والقدرة على التعاطي مع النزاعات العربية والإفريقية، بالإضافة إلى السياقات الأمنية والمالية التي تعرفها المراكز الرأسمالية، دفعت بالجزائر لأن تكون وكيلا ومدخلا، ومرتكزا للسياسات الإفريقية لمختلف القوى التقليدية الإقليمية والدولية، وحتى الصاعدة منها ( تركيا والصين) الباحثة عن متنفس لتصريف أزماتها وتوسيع مجالاتها الحيوية، والنفوذ إلى إفريقيا السوق الواعدة، وقد يعبر عن هذا التوجه حجم الزيارات ونوعيتها، وحجم الاتفاقيات وتنوعها، والتصريحات عالية المستوى المباركة للسلوك الجزائري، سواء من طرف دول المحور اللاتيني بقيادة فرنسا( انظر الوفود التي يستقبلها وزير الصناعة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة)، أو الإدارة الأمريكية ومراقبتها للوضع من كثب. إن التصريحات القوية للوزير الأول عبد المالك سلال المتفائلة وشديدة الحماس التي يعلن من خلالها بداية مرحلة ما بعد البترول، وبرمجته عقد قمة اقتصادية جزائرية إفريقية نهاية السنة الجارية 2015، وضرورة توجه المقاولة الجزائرية ( المتعثرة محليا) نحو الأسواق الإفريقية والاستثمار فيها، مع تأكيده صرف النظر عن الأسواق الأوروبية بحجة صعوبة الوصول إليها (على رغم قربها وغناها)، في إيحاء بعدم التفكير في منافسة الأوروبيين في أسواقهم، وتحدي السيد حداد رئيس الباترونا الجزائرية ببناء اقتصاد منافس و قوي خارج المحروقات ( على رغم عجزه عن تسجيل أي تقدم في معدلات النمو)، كلها معطيات توحي بأن الجزائر قد استلمت عقد الوكيل المعتمد "الكومبرادور" للاتجار بالمنتجات الأوروبية في السوق الإفريقية، فالإنتاج يحتاج إلى إبداع تكنولوجي وقدرة عالية على إدارة الأعمال والمشاريع والتسويق، ودراسة جدوى الأسواق واحتياجاتها، وهي عناصر لا تتوفر عليها المنظومة الجزائرية فيما أعلم، وقد يكون هذا هو الهامش( الفرصة بالنسبة إلينا) الذي تسمح به العولمة ومراكزها.