في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم وصلت الخزينة العمومية إلى ما ستصل إليه في الأيام القليلة المقبلة، قررت السلطة وبدون مقدمات الارتماء في أحضان البنك الدولي، وبدوره البنك لم يقصر في استقبال الدولة الجزائرية التي دقت بابه وهي جاهزة لقبول كل الشروط وكل الوضعيات الاقتصادية التي ترضي نزقه، كان من جملة شروطه التخلص من جميع المصانع التي كانت ملكاً لدولة وخاصة تلك التي تعاني من عجز مالي والذي كان مفتعلا، كان مصنع الياجور الذي يشغل 20 بالمئة تقريبا من جملة السكان في تلك القرية التي لا يتجاوز عدد نسمتها 600 مواطن، جاء القرار عبر سفراء الجوع، بعد أن مهد له بتأخير الأجور عن معادها مما أثار غضب العمال فقاموا بإضراب نزل على قلب السلطة (زي العسل)، ليغضب أحدهم ويرمى قطعة حديدية تستعمل لكسر الحجر المرصوص في أساس البنايات تسمى: البَرَمِيلَة داخل الماكينة المصنعة للياجور، توقف المصنع ليجد العامل البسيط -الذي تنتظره في البيت خمس بطون جائعة في أخف الحالات- نفسه في العراء، الفقر من أمامكم والإرهاب من ورائكم والموت رصاصة طائشة قد تأتي في أي لحظة من الجهات الأربع والقاتل المأجور إرهابي فار متمرد على الدولة، فهم الجميع الدرس وقرروا التأقلم مع الوضع، أذكر أن عاملا سابقا في ذلك المصنع المغدور، اضطر للعمل في ملهى ليلي مع أنه شخص محترم وعائلته كذلك، ولكن الجوع ابن حرام، نفس الشخص جمعني معه حديث آنذاك سألته عن حكاية البراميلة ومن أدخلها قال لي: لا يهم من فعلها المهم أنها دخلت فيه، بعد عقدٍ من الزمن اتصل بي صديق من أبناء القرية قادم من إيطاليا ليخبرني: إنه قادم إلى مرسليا لأستقبله عندي حتى يرتب أحواله هنا، قلت له مرحباً، ثم أضاف طلبا على استحياء: إذا لم يكن لديك حرجا معي صديق آخر يحتاج فقط استضافة لمدة 3 أيام، جاء الصديق ومعه رفيق سفره، والذي تبين بعد التعارف أنه كان يشتغل محاسبا إداريا في نفس المصنع الذي أصابته اللعنة، وقد بلغ من العمر 45 سنة من اليأس، جاء إلى أوربا عبر قارب الموت، نجا من أهوال البحر والتي لم تكن في خطورتها وتراجديتها أقسى من واقعه المزري، أخذت في إعادة تفكيك الواقع السياسي والذي أوصل المواطن الجزائري إلى هذا القهر، حينها اتضح لي لماذا اخترعت كذبة الانفتاح الديمقراطي والتعددية وفزاعة الإرهاب الأصولي، والانقلاب على شرعية الصندوق وقواعد الديمقراطية التي ارتضاه الجميع كمسار شرعي حداثي للوصول الى الحكم، تقدم الزمن بخطوات وفي كل خطوة كانت الشروط السياسية التي أنتجت حادثة البَرَمِيلَة تعود رويدا إلى الواقع، ومع ان السلطة بشيوخها أفلتت من المسألة عبر قانون المصالحة وفتحت صفحة جديدة برعاية رئيس يدعو إلى دين التسامح الذي يستوي فيه الجلاد والضحية، وإلى دولة العزة والكرامة، وفعلا فتح الله لنا من أبواب رزقه ومن واسع كرمه وجوده، ما جعلنا نخفف ثقل الديون من على كاهل الدولة، ولكن المؤسف عادت السلطة إلى عادتها القديمة، في ظل غياب تام لرقابة شعبية وضغط المعارضة السياسية، وغياب تام لإعلام نزيه انتشر الفساد بشكل مفزع تحت مسمى برنامج الرئيس، كان الفساد يأكل كل المشاريع الضخمة التي لم ينجز مشروعا منها على وجه الإتقان والتمام، بل ظلت ثقبا فادحا تسيل منه أموال الشعب في جيوب لصوص الجمهورية وحساباتهم في الخارج مما انعكس على السوق السوداء للعملة الصعبة والتي ارتفعت بشكل مذهل، إنها عملية نقل الأموال المنهوبة إلى الخارج، أما المواطن كالسكران لا يدري ما يجري سوى أنه محاصرٌ بسحرة فرعون الذين تم انتدابهم في عمل إعلامي موسع ورهيب مهمته الوحيدة تمجيد الرئيس وبرنامجه والتغطية على بطانته التي تنهب نهبا من لا يخشى فقر الشعب ولا جوعه، بعد أحداث الربيع العربي في الدول المجاورة سارعت السلطة إلى فتح ثقب جديد يصب هذه المرة في جيب المواطن ملف بسيط تحصل على مبلغ أو سيارة ..الخ، دون مراعاة لأي من المقاييس العلمية للمؤسسات الصغيرة وأطلقت الجهات الناقمة على الأوضاع حينها الرشوة الاجتماعية، لتخفيف ضغط هذه الجبهة الاجتماعية ومنع تسرب غاز الربيع العربي وبالتالي تجنب انفجار الشارع في وجهها، مما جعل سلال يتباهى بما سماه الفليطوكس الذي أبطل مفعول الفيروس على حد احتقاره لكفاح الشعوب ضد حكامها المجرمين، حينها كنت أقول لصديقي إن حادثة البَرَمِيلَة ستتكرر لكنه لم يصدقني، استوعبته اللحظة الراهنة دون ربطها بنتائج مستقبلية كارثية، لكن المتغير الآن هو أن المصانع لم تعد موجودة ليتم غلقها، وأن الحلول التي اخترعتها السلطة لامتصاص البطالة هي التوظيف العمومي، وعقود ما قبل التشغيل، وبما أن سلال صاحب الفليطوكس العجيب قد أعلن أنه لم يتبق من احتياطي الصرف سوى 9 مليار دولار بما يتوجب على الحكومة الذهاب مرة أخرى إلى البنك الدولي فإن العواقب ستكون وخيمة، ولا يمكن لها أن تدير الأزمة إلا من خلال إنتاج نفس المشهد التسعيني بكل تفاصيله يعني عودة الخراب بتجالياته المخيفة…