في ظل الربيع العربي المفاجئ.. الذي جاء محملا بآمال ثرية وروح جديدة لمئات الملايين من البشر الذين عذبتهم ديكتاتوريات عاتية.. وحكمت بصلبهم إلى اثنين وعشرين عمودا سلطويا.. تتدلى من كل عمود أشلاء ملايين الضحايا.. وجففت بسبب خياراتها القاتلة التي تلبست بعناوين ثورية وعصرية زائفة منابع العطاء والتطور في مجتمعات يفترض أن تكون حية.. بما تملك من ذخر حضاري ودين مواكب لمقتضيات العصر وطاقات تستجيب لحاجات التطور.. وحولت كل شيء على ظهر الأرض العربية إلى خرائب ورماد.. وجعلت العرب تحديدا وهم جذوة الإسلام المتقدة وعنصره الأصيل يظهرون وكأنهم قطعة أثرية شاذة ملتصقة بجدار هذا العصر.. في هذا المشهد المثير لصراع التغيير الذي لا مناص منه.. تبدو الجزائر وكأنها غير معنية بما يقع حولها أو قريبا منها في هذا العالم. فالزمن الجزائري يبدو مسافرا وحده في فراغ ما بين الأزمنة .. أعني أنه مستقر خارج السياق العام لربيع التغيير الذي أعقب شتاء عربيا طويلا.. أو بتعبير البعض.. كأن (الجزائر اليوم تعيش خارج إطار الزمن الحقيقي -1). والجغرافيا الجزائرية تبدو مساحة معزولة عن العالم.. كجزيرة ضائعة في محيط لا نهائي من العزلة.. لا يصلها مركب.. ولا يبلغها صدى.. جغرافية أريد لها أن تكون محاطة بماجينو إعلامي وسياسي.. مكهرب بتيار متوتر من الأزمات والهواجس والمشكلات. وأحلام الجزائريين المكبوتة.. تبدو محبوسة في أذهان أصحابها.. وغير جاهزة للعبور إلى فضاء التحقق.. فالكوابيس التي أحاطت بهم في عشرية الموت والرعب لا تزال تتشبث بمواقعها في عقلهم الباطن.. منشبة أظافرها في لحم الوطن المتمدد كصريع على الأرض. وعللهم المستعصية.. تظهر وكأنها تتجاوز قدرتهم على إدراك ما في الأفق.. وكأن الغد المنظور.. كما الغد الكامن في أعماء الزمن الآتي.. لا يتيح استقصاء ما يمكن أن يقع.. وبالصورة الأكثر احتمالا.. يفضلون الاستغراق في نوم عميق على الاستيقاظ والحركة في مواجهة متغيرات حاسمة يحملها الربيع العربي. من الخطأ الاعتقاد أن الربيع العربي.. وهو وصف يطلق مجازا على الثورات العربية.. ربيع إسلامي صرف.. وأن أبطاله ومحركيه هم فئة إسلامية محضة.. كلا.. فالشارع الذي انتفض فجأة.. وهدرت سيوله البشرية.. احتمل ألوان الطيف كلها.. من إسلاميين وغير إسلاميين ممن يناهضون القمع والقهر.. لقد هب الجميع في وجه الفساد والاستبداد.. آملين في التخلص من أنظمة بشعت حياتهم وسلبت منهم آدميتهم. فكل الذين سعت الديكتاتورية في سحقهم وتجريدهم من حقوقهم الإنسانية والوطنية انتظموا في هذا السيل الهادر.. وركبوا أمواج التغيير.. وتكاتفوا للانعتاق من أسر الطغيان. الربيع العربي حتمية تاريخية.. وبلغة القرآن الكريم “سنة إلهية ” .. فدولة الظلم لا تدوم.. وكيانات الرعب السياسي لا تقوى على الاستمرار إلى الأبد.. ففي لحظة فارقة وغير متوقعة في أغلب الأحيان.. تنهار أوتاد الاستبداد على رؤوس الفراعنة.. ويتلاشى ظلام القهر أمام ظلل النور المتدفقة. ما حدث كان واضحا وفي أوانه.. فحين بلغ الاحتقان حد الانفجار.. ثقب مواطن عربي بدافع الشعور بالهوان الكرة المعبأة بالمظالم.. لتنفجر وينكشف المستور.. ويبدأ كل شيء في التغير. في الجزائر.. نستند إلى تجربة مرة.. مرارتها أشد مما نتصور.. وبالكاد كنا نتعافى مما حدث.. حتى فاجأنا أكتوبر عربي.. حريات تنبثق من هنا وهناك.. وأصنام بشرية تنهار.. وزمن عربي جديد يولد من عتمة القهر والظلم.. فهل صدمنا ذلك ؟ أعتقد أن تركة المأساة الوطنية.. فعلت فعلها في رؤوسنا.. وحفرت أخاديدها في واقعنا.. وهي التي مكنت إلى حد الآن من صرف مسار هذا الربيع عن الجزائر.. كالإعصار الذي ينحرف فجأة عن خط سيره الأصلي. وكما يرى البعض أن الجزائر قد عاشت ربيعها من قبل وانتهى الأمر.. فقد ركبت السلطة الموجة المضادة للتغيير.. تلك التي تنسحب إلى عرض البحر بدل أن تغسل الشاطئ من أوساخه.. وأدارت الانتخابات التشريعية في ماي 2012 تحت شعار “ربيعنا هو الجزائر” .. لتتحقق نتيجة مخالفة لكل التوقعات.. فلا الناس ذهبوا إلى مراكز الانتخاب.. ولا السلطة كفت عن سياستها المعروفة.. ولا الواقع انتقل شبرا عن موقعه القديم.. رغم ما يدعى من أن الجزائر (لم تدعم الأنظمة القمعية على الإطلاق – 2-). في سياق البحث عن نهاية ما لمرحلة المأساة الوطنية.. هذه المأساة التي أعتقد أنها مستمرة بكيفيات مختلفة.. وقائمة لفترة أطول مما يجب.. من الطبيعي أن تولد تطلعات وتنشأ آمال عظام.. حين ترى من حولك يتحررون من أسرهم.. وينطلقون في فضاء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأنت قابع في مكانك.. مشدود إلى وتد قديم. إن الربيع يولد في زمانه.. عقب شتاء قارس.. وفيه تنتشي الكائنات ويعظم منسوب الضوء.. ويسفر عن البهجة والنماء {.. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ – الحج5 – } . ولأن الأمة الراشدة لا تحبذ العنف.. هل تملك السلطة من الحكمة والبصيرة.. ومن إعلاء المصلحة العامة للأمة والوطن على المصالح الخاصة والفئوية.. أن تتصرف بما يجنبنا هذا العنف؟ إن هذا الربيع – وبكل المقاييس – هو انتفاضات شعوب.. اكتشفت أنه ليس لديها ما تخسر إن فشلت.. لكن لديها الكثير مما تربح.. حين تزيح الطغاة عن مواقعهم وتقطع دابر الفساد.. وتتيح لأنفاس الحرية أن تتدفق.. ولنور الحياة أن يغمر الأوطان. إن ما هو أهم بالنسبة إلى أي ثورة.. ليس لحظة وقوعها.. بل ما يعقب لحظة انتصارها.. والإسلاميون الذين لم يستوعبوا الدرس من عهود القهر التي اكتنفتهم.. لن يكونوا جديرين بثورة الحرية هذه.. وهي فرصة تاريخية من النادر أن تأتي على هذا النحو.. إن لم يساهموا في ترسيخ قيم الحرية وحقوق الإنسان ومناهضة الاستبداد. اختارت الأحزاب السياسية الإٌسلامية في الجزائر أن تذهب إلى الصندوق الانتخابي.. لقناعتها أنه الطريق الأسلم والأفضل.. واختارت السلطة القائمة أن تبقي الوضع على ما هو عليه.. ولم تبد أي استعداد للتجاوب مع الأوضاع الجديدة.. وبين الاثنين تتطور الأحداث في اتجاه نقطة اللاعودة.. ولا أحد يملك أن يقول ماذا سيحدث غدا؟ *** إن دخول التيار الاستئصالي على الخط.. شحن المواجهة التي لم تفتر أصلا.. ووفر لها أسباب التفاقم.. فمنهم من يرى (ما جرى في تونس بعد صعود الإسلاميين عبارة عن عبث، فالوضع المتأزم الذي يعيشه هذا البلد بعد الثورة، لم يكن يسمح بإجراء الانتخابات، ورغم ذلك جرت هذه الانتخابات، وحقق الإسلاميون فوزهم – 3 -). ومنهم من يدعي في سياق تعميم حكم متحامل على أحداث الربيع العربي أن (بعض الثورات العربية لم تكن بريئة من لمسة اليد الأجنبية ضمن لعبة مصالح دولية كثير منها غير أخلاقي. أما الأزمة الليبية فكل دولة لها أجندتها 4 ) . وفي كل الأحوال.. يبدو القصد واضحا.. وهو قطع الطريق أمام أية مبادرة تستهدف تحقيق تغيير هادئ.. بعيدا عن أي عنف أو مواجهة.. فالاستئصالي تحديدا يخشى الصندوق.. إذ يرى فيه موته السياسي.. ويتحاشى الديمقراطية التي تعريه وتفضحه. لقد مثل موقف الإسلاميين في الجزائر من الثورات العربية حالة اتساق مع الأحداث.. حين أملوا في انفتاح السلطة على ديمقراطية حقيقية.. بلا إقصاء أو تهميش.. فتكف يدها عن الصندوق الانتخابي.. وتزيح العوائق المصطنعة في وجه النشاط السياسي المتحرر.. ليختار الناخب من يريد.. وتدعم خيارات الشعوب العربية المنتفضة.. بدل أن ترمي طوق النجاة لديكتاتوريات متهاوية.. بدت متشبثة وهي في حالة يأس بقشة تعصف بها رياح التغيير. صحيح أن الحكومة قد سمحت باعتماد أحزاب جديدة.. ترفع الشعار الإسلامي.. وأعلن عن تكتل إسلامي بين ثلاثة أحزاب بلون أخضر تيمنا بهذه الثورات .. وتوقع البعض أن تسفر الانتخابات التشريعية في ماي 2012 عن تغيير أولي يمس تركيبة الحكومة.. وامتد تفاؤل البعض أبعد من ذلك.. حين توقعوا أن تصلح السلطة كل أخطائها السابقة.. وتسحب اعتراضاتها.. وتمنح ملف الإصلاحات مصداقية فعلية وشاملة في الميدان.. غير أن ذلك كله أضحى مجرد سراب خادع. لقد حمل إليهم هذاالربيع أملا غير متوقع.. أملا كبيرا جدا.. بأن تزاح بتقدير البعض حواجز وممنوعات طالما ضيقت عليهم باسم القانون وأمن الدولة.. وصادرت حقهم في الممارسة السياسية والاجتماعية والفكرية الحرة. كان هذا ما اعتقدوه وأملوه.. وسعوا وراءه.. قبل أن يكتشفوا أن وعود السلطة وإصلاحاتها وإجراءاتها.. مجرد لعبة وقت امتصت بها زخم الأحداث. كان يفترض أن يضع هذا الربيع كل الإسلاميين في مواجهة الواقع.. باختبار مدى جدية مشروعهم الإصلاحي أوالتغييري.. فالشعارات والعناوين واستدرار العواطف.. لا تغني وحدها.. وقد تجدي أصحابها مؤقتا.. أعني في البداية.. غير أن العبرة بتحقيق استجابة دائمة وفعلية لطموحات الناس.. وليس في الكلام عنها وكفى. باستثناء العميان.. يرى المبصرون أن هذا الربيع نقيض الوضع البائس.. فهو بمثابة الحياة التي تنبثق من أشلاء الموت.. والوجود الذي يطرد العدم.. والإنسانية التي تتجلى منتصرة على التوحش السياسي.. والنور الذي يشتت ظلام الطغيان. يقينا أن الجزائر ستختبر ربيعها الخاص.. إن لم يكن ذلك اليوم فغدا أو بعد غد.. المسألة سيحسمها الزمن.. وأقدر أن ذلك سيقع حين تعجز “السلطة ” عن تنفيس “الكرة المنتفخة” بريع النفط المتدفق.. فإلى متى سيستمر ذلك؟ الهوامش 1 – عبد العزيز رحابي. ناطق باسم وزارة الخارجية سابقا . 2 – عبد العزيز بلخادم ، وزير دولة- مغاربية 13/ 12/ 2011 . 3 -الخبر . حوار مع رضا مالك في 29/ 02/ 2012 . 4 – تصريح لأحمد أويحي في 2011/ 09/ 20 .