لقد كشف عن هذا المعنى العقدي رئيس وفد المفاوضين المشركين الذين أرسلوا لرسول الله (ص) شخصيات كثيرة يوم الحديبية فخاب مسعاهم إلى أن جاء سهيل بن عمرو الذي كشف عن هذه الفروق الدقيقة في عقيدة أهل الشرك عندما رفض كتابة صيغة البسملة بلفظ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وطلب استبدالها بصيغة "باسمك اللهم" كما رفض صيغة "محمد رسول الله" وأصرّ على أن تكتب "محمد بن عبد الله" وبررها بقوله : لو آمنا (أو علمنا) أنك رسول الله ما حاربناك !! مغازي الواقدي :02-610، وهي الحقيقة التي كشفت عنها آيات كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" يونس:31/32، كما سوف يأتي بيانه في جميع ما أُنزل من الوحي على محمد(ص) لاسيما السور المكية، كونها كانت تواجه واقعا جاهليا مغمورا في الشرك والوثنية، فكان التنزيل صارما في قضايا العقيدة التي أذاعها الحق (جل جلاله) دفعة واحدة لا تدرّج فيها ولا ناسخ ولا منسوخ، بخلاف الأحكام والتشريع والعلاقات الاجتماعية والمعاهدات والعقود والمواثيق..التي راعى فيها التشريع التدرّج المتناسب مع حركة بناء العقيدة وتأسيس الأسرة والمجتمع والدولة بين بداية نزول الوحي إلى الهجرة، وما تلا ذلك من أحداث إلى يوم فتح مكة حيث توقفت حركة الهجرة وصار لدولة المدينة سلطان سياسي وامتداد جغرافي وهيبة في القلوب والنفوس.. ولم يعد أحد يخشى على نفسه الفتنة في دينه، فأذاع رسول الله(ص) بيان رفع الحرج عمن لم يهاجر، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا هجرة بعد الفتح، لكن جهاد ونية" متفق عليه، وفي حديث مجاشع بن مسعود، أنه جاء بأخيه مجالد لكي يبايعه النبي (عليه الصلاة والسلام) على الهجرة فقال: "قد مضت الهجرة لأهلها" رواه البخاري في سياق الحديث السابق: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا". هذه بعض "الأجواء" النفسية والاجتماعية والتاريخية التي تنزّل فيها القرآن الكريم، والتي يجب أن تكون حاضرة معنا اليوم ليفهم المتعامل مع الوحي معنى خطاب الله للناس عامة ولأهل الكتاب جميعا ثم للمؤمنين خاصة، وهي "الأجواء" التي تتحرك فيها هذه السورة التي تتناول بالحديث أربع فئات من الناس أمام هدي الله والدعوة إلى عبادته وحده لا شريك له والاستعانة به وحده دون سواه وسؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم..وهم: -الموحدون الذين أيقنوا أن العبادة تستغرق حركة الحياة كلها. -المشركون الذين اتخذوا من دون الله آلهة، أو عبدوا مع الله غيره. -المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ويخفونه عن الناس. -الضالون الذين يعتقدون أنهم مهديون أو مهتدون، ولكنهم عن الحق زائغون. يتبع…