الأستاذ" كاتب جامعي متخصص في الفلسفة [email protected] جامعة خنشلة أريد أن أتخذ مدخلا فلسفيا- فينومينولوجيا لظاهرة الانتحار، لأن الفينومينولوجيا وفق الفيلسوف الألماني "إدموند هوسرل" تعلمنا أنه ليس ثمة موضوع من دون ذات، ولا ذات من دون موضوع "، فكل شعور هو شعور بشيء ما"، سيكون حينئذ الحديث عن الانتحار ليس كظاهرة مستقلة عن الذات المنتحرة، بما أن هناك ذات وموضوع هما في علاقة علائقية- قصدية، وربما هذا ما يُطرح كأكبر عائق ابستيمولوجي لتفسير الظاهرة بما هي ذات وموضوع منصهرين معا. نريد أن نتساءل وفق هذا المدخل الفينومينولوجي عن جدوى الدراسة السيكولوجية والاجتماعية بمناهجها التحليلية والوصفية والإحصائية والتفسيرية لظاهرة الانتحار، وليس الهدف من السؤال التشكيك في معطيات ومناهج هذه العلوم، وبعض نتائجها المثيرة في كشف مغاليق النفس والسلوك الإنساني، ولكن نريد أن نقول أنه لابد لهذه العلوم أن تتكئ على الفهم الفلسفي، ومن ثمة الفهم الأنطولوجي للانتحار، بما هو طرح فلسفي بالدرجة الأولى، يتعلق أساسا بتجربة الموت.
لقد ظل الموت موضوعا يحمل دلالة سلبية، إما مغيبا وإما مسكوت عنه، تمارس عليه ميتافيزيقا الحضور والغياب، فهو الحاضر الغائب، لاعتبارات اجتماعية وسيكولوجية وميتافيزيقة وحتى أسطورية، فقد قال عنه الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر"، "أنه مطلق ونسبي في آن واحد، وهو الظاهرة التي تجمع المتناقضين (النسبي والمطلق)، مطلق لأننا كلنا نموت، والموت لا يستثني أحدا، وهو نسبي أيضا لأن كل شخص يموت موتته الخاصة، وليس بإمكانه نقل تجربته للآخرين، بما أنه في عالم الأموات".(عمر مهيبل- إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية)، أما العائق الثاني، والذي يبدو نقيضا للأول، بالرغم أنه يجاريه في الفكرة، وهو أن الانتحار وبالرغم من كونه حدث في الموت، أو هو الموت ذاته، يبدو ظاهرة غريبة عن الموت ذاته، لأن الموت حادثة مفاجئة تقريبا، تتقاطع فيها إحداثيات الحياة والموت معا، غير أنه مع الانتحار يصبح المنتحِر قد اختار موته، والتقى معه وفق موعد محدد وربما مسبق، والأكثر من ذلك فهو مهندس الموت، بما أنه يختار أدوات ووسائل موته…الخ، هذا التوجه الذي نقصده منذ البداية بما اصطلح عليه ب"فينومينولوجيا الموت" الذي يحمل معنى القصد والإحالة، هو المبرر الثاني للمقاربة الفينومينولوجية لظاهرة الانتحار، والتي تعير أهمية كبيرة في تحول الذات نحو الموضوع وقصديته إليه، أو في قصدية المنتحِر إلى الانتحار، بحيث يعبر الحدّ بتجربة فردية فريدة من حدّ المنحر نحو حدّ الانتحار، إنه التحول من الذات نحو الموضوع. إن الصعوبة ههنا تكمن في أن الانتحار هو شكل من أشكال الموت، ولكنه ليس الموت بشحناته السوسيو-ثقافية والدينية والأسطورية، بمعنى أنه إذا كان على الإنسان أن يؤمن بحقيقة الموت وأن يؤمن بوجوده لامحالة، فإنه يرفض الانتحار كطريقة أو كشكل لهذه الحقيقة الأكيدة (الموت)، وربما هذا الرفض يتعلق برفض محاولة استباق الموت أو استحضاره قبل آوانه الميتافيزيقي، إن الانتحار/ الموت هو بالدرجة الأولى معايشة فينومينولوجية، تصبح حينئذ المقاربة الظاهراتية مدخلا يمكن أن نأمل فيها على الأقل في فهم الظاهرة أو تفهمها. هذا ما يجعل الأمل قائما في الفلسفة وهي متضافرة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية في فهم الظاهرة، ناهيك على أن الفينومينولوجيا وفق منهجها الإبوخي، أي وضع العالم بين قوسين، تجعلنا نفهم جيدا كيف أن المنتحِر يختزل كل الآمال والمرجعيات والرؤى، ويضعها خارج إطار الأهمية، فقط الموت، فقط موعد مع الموت…، هذا هو اللقاء الأكيد.