خلال إحدى الندوات الوطنية التي جرت وقائعها في خضم الصراع الفكري بين أنصار مشروع تعليم اللغة العامية بديلا عن العربية الفصحى ومعارضيهم، كان من بين المتدخلين الدكتور محمد قماري- أستاذ علم النفس بجامعة الجزائر-، والذي أشار في معرض رده عن دعاة تدريس العامية إلى أن هؤلاء يتكئون على تراث قديم في علم اللسانيات يعود إلى فردينان دي سوسير – De Saussure، والذي يُنسب إليه تأسيس علم الدراسات اللسانية الحديثة، والذي أسس إلى ما بات يُعرف بعد وفاته بثنائيات دي سوسير، ومنها أن الأولى في دراسات اللسانية يجب أن ينصرف إلى الآنية لا التاريخية، وإلى الكلام لا إلى اللغة. وجاء في كلمة الدكتور قماري أن دي سوسير الذي عاصر داروين ودوركايم وفرويد، لا شك أنه تأثر بحمى التطور الذي ينسف كل ثابت، وكانت اللغات الأوربية التي تحيط به هي لغات جديدة انبثقت عن اللاتينية، لكنها في مجملها لغات لم تستقر في بنية نظامها إلا منذ قرون قريبة، ومعجم مفرداتها الفقير أصلا مفتوح على الاقتراض في المفردات، والمفارقة أن لا أحد اليوم من العلماء المحترمين في مجال اللسانيات، ما زال ينظر بارتياح لهذه المدرسة التي عرفت ب "البنيوية" إلاّ من حيث أنها جزء من تاريخ العلوم. فقد ظهرت دراسات لسانية أكثر جديّة، منها مدرسة النحو التوليدي، ومدرسة اللسانيات المعرفية، واللسانيات العصبية.. وخلُص الأستاذ قماري إلى أن من بين مصائبنا هي أن الأصولية لا تقتصر فقط على سلفية التراث، فهناك أصولية باسم الحداثة، تلوك نظريات وأفكار تجاوزتها البيئات التي نشأت فيها، وأصبحت شيئا من تاريخ العلوم. أتذكر مداخلة الأستاذ قماري كلما قرأت مقالات ونقاشات لعدد من النخب والمثقفين من دعاة الحداثة والتنوير الذين يهاجمون الفكر السلفي والإسلاميين عموما، ووصفهم بأنهم أصحاب نقل ويرفضون كل إعمال للعقل، وأن فكرهم وآرائهم توقفت عند آراء وأفكار رجال مضى على رحيلهم قرون عديدة، وأن الأمة والمجتمع بحاجة إلى تجديد أو ثورة على هذه الأفكار، بل هناك من يدعو إلى مراجعة القرآن والبحث عن نسخ في الهند والبحر الميت، ولم يجد "تنويري" آخر شيئا إلاّ أن اهتدى إلى ضرورة إعادة ترتيب سور القرآن بحسب ترتيب نزولها. لا أنفي أنني أتفق مع كثير مما ذهب إليه هؤلاء، من حيث أننا أمام تيارات وفقهاء وشيوخ يرفضون حتى مجرد مناقشة ما طرح من اجتهادات بشرية منذ قرون عديدة والتي بلغت حد القداسة لدى الكثيرين، وإن لم يصرحوا بذلك، لكن الأمر الذي يغفله هؤلاء أننا في الواقع أمام وجوه كثيرة للسلفية. فالقداسة التي يحيط بها من يعرفون بالسلفيين اجتهادات وآراء السلف، يحيط بها أيضا من يسمون بالحداثيين واليساريين والعلمانيين أو المجددين آراء وكتب وأفكار كثير من المفكرين والفلاسفة. الشاهد أن العالم الإسلامي (والغربي أيضا) مليء بسلفيات من نوع آخر. فهناك ما يمكن أن نسميه سلفية ماركسية أو شيوعية، وسلفية ليبرالية وسلفية بن خلدونية، وسلفية بن نابية وبن رشدية، وهناك سلفية آركونية تقلد مقلدا، وأخيرا وليس آخرا ربما السلفية العدنانية (نسبة إلى عدنان إبراهيم).. إلخ. فمثلا، نجد من يعتبر ما جاء في أفكار ماركس نظريات مقدسة، على الرغم من أن الواقع والتجربة أثبت فشلها واستحالة إسقاط أغلب تلك الأفكار على أرض الواقع. فهذا الماركسي المحافظ الذي لا يجد حرجا في وصف تيارات أخرى بالجمود الفكري وعدم التطور يغفل في الحقيقة عن شيء مهم وهو أن تلك التيارات تتمسك بتراث من ماض عظيم، على ما فيه من أخطاء، بينما يتمسك هو بتجربة مأسوية ماديا وأخلاقيا وإنسانيا. كما لم نسمع أحدا يتهم هؤلاء الماركسيين أو التروتسكيين بالأصولية ولا الظلامية ولا التقليد والانغلاق الفكري، بل بالعكس نجد أتباع هذا التيار يتم تسويقهم إعلاميا على أنهم صفوة المجتمع وحملة لواء التنوير. نجد أيضا من بين أشد معارضي التيار السلفي في عالمنا الإسلامي، أولئك الذين يعتبرون ابن رشد القديس الأكبر، فحالة التقديس التي يُحاط بها بن رشد لدى هؤلاء لا تختلف عن حالة التقديس التي يحيط بها السلفية الكلاسيكية ابن تيمية وابن حنبل. وهنا نجد أن حالة التقديس لابن رشد في أغلبها ناتجة عن عقدة الرجل الغربي لدى المثقف المسلم أو المشرقي. فابن رشد يحظى لدى هذه النخب بهذه المكانة لأنه كان محل إعجاب وتبجيل وتأثر لدى كثير من مفكري النهضة الأوروبية، (جوردانو برونو ، ديكارت…إلخ ) بينما لا يحظى لدى هؤلاء عالم بنفس مكانته وخصم بن رشد الفكري أبو حامد الغزالي، لا لشيء إلا لأنه لم يقدمه لنا الرجل الغربي (وإن أنصفه بعضهم). فالمطّلع على حالة المواجهة الفكرية التي دارت بين الرجلين يدرك عظمة كلاهما، وبالأخص أبي حامد الذي تميز بقدرة نقد ما جادت به الفلسفة اليونانية، وجرأة وعمق لم يتمتع بها معاصروه. في الحقيقة المكانة التي يحظى بها ابن رشد لدى كثير من دعاة التنوير والثورة على التراث الإسلامي لا تعود في أغلبها إلى فهم وقراءة متأنية وعميقة لفكر ابن رشد بقدر ما هي ناتجة عن سلفية من نوع آخر، سلفية تستقي آرائها وأفكارها من تقليد شبه أعمى للمفكرين الغربيين الذين اعتبروا بن رشد أحد الأوائل الذين أسسوا للفكر العلماني، وانساق وراءهم مسلمون عن غير بصيرة، بل خلط كثيرون بين حادثة ومكايدة سياسية أدت إلى حرق كتب بن رشد وتم تصويرها على أنها مسألة قمع فكري للرجل ويتم التغافل على من أمروا بحرق كتاب الغزالي. إن الاحتفاء الكبير لدى كثير من الغربيين بابن رشد لا يعود، من وجهة نظر الكاتب، كله إلى القيمة العظيمة لابن رشد كمفكر ومجدد وفيلسوف، بل مثّل بن رشد بالنسبة للحضارة الغربية المفكر المسلم الذي استطاع أن يثبت (من وجهة نظرهم) تفوق نتاج الحضارة الأوروبية، ممثلة في الفسلفة اليونانية، على الحضارة الإسلامية وتراثها الديني وإنتاجها الفكري ويثور على هذا التراث. ليس الهدف مناقشة أفكار هؤلاء العظماء والمفكرين من بن رشد إلى بن خلدون وبن نبي وماركس وديكارت وغيرهم من أصحاب المدارس الفكرية، ولكن الهدف هو لفت النظر إلى أن ظاهرة السلفية ليست مقتصرة على السفلية الدينية بمفهومها المتعارف عليه بل تتعداه لتشمل عديد المدارس الفكرية وتكاد تستحوذ على معظم النخب كما أشرنا في مقدمة المقال. لأننا كثيرا ما نجد أنفسنا أمام مدارس فكرية ظاهرها التجديد وباطنها سلفية وتقليد. إن المفكرين الكبار والمجددين الحقيقيين، وليس المزيفين، في شتى مجالات الفكر والدين أشبه بالطيور الذين يحلقون عاليا ليروا ما لا يستطيع الناس والنخب المثقفة العادية رؤيته، ولكن حتما مهما حلقت هذه الطيور عاليا فإنها مساحة رؤيتها محدودة ولا تعكس إلا مجال رؤيتهم المحدود بالزمان والمكان. ولهذا لا يجب أن تتوقف البشرية عند اجتهادات وأفكار هؤلاء ولا يجب أن تتعصب فئة لفكر وتزدري أفكارا أخرى مهما بدت تلك الأفكار مستهجنة أو غريبة. إن كل فكرة استطاعت أن تشد إليها عددا أو فئة من البشر شيء من الوجاهة والجاذبية الذي يحتم علينا أن لا نهملها أو نزدريها، ففي طياتها شيء من الحقيقة أو القدرة على إحداث اختراق فكري واجتماعي، وهذا وحده كفيل بجعلها تستحق القراءة والتأمل إما كظاهرة فكرية أو ظاهرة اجتماعية أو كلاهما معا. على الباحث عن الحقيقة أن يضع مبادئ وقيم عامة تضيء مسيرته في بحثه عن الحقيقة، ومن دون هذه المبادئ والقيم يصبح كمن يتحرك في بحر هائج تتخبطه الأمواج وترميه في شواطئ مختلفة ومتناقضة ما له من قرار. لا يجب أن يمارس العقلانية والتجديد في مواضع ويدوس عليها في مواضع أخرى، لا يعقل أن يحارب التقليد وتقديس الأشخاص واجتهاداتهم في موضع وينغمس فيها إلى أذنيه في مواضع أخرى، والفكر المحترم الذي يكتب له البقاء هو ما قام على منهج واضح ومنضبط، يلزم به نفسه ويحتكم إلى معاييره مع المؤيدين والمخالفين.