وقفات من حياة العلامة عبد الحميد بن باديس مما ينبغي أن تهتم به الأمة اهتماما بالغا وتعنى به عناية فائقة، تقدير أهل العلم وتبجيلهم، وإبراز آثارهم وفضائلهم ليقتدى بها، وذكر سيّرهم العطرة، ليستفاد من خيرهم الكبير، وإن من هؤلاء العلماء الكبار، الإمام المربي المصلح رائد النهضة في الجزائر العلامة عبد الحميد بن باديس –رحمه الله رحمة واسعة– نذكر باختصار في هذا المقال شيئا من حياته المشرقة ومواقفه البطولية الخالدة تذكيرا بها، و وفاء له واعترافا بفضله علينا وعلى الأمة . اسمه ومولده: عبد الحميد بن محمد بن مكي بن باديس الصنهاجي، ولد بمدينة قسنطينة في يوم الأربعاء 10 ربيع الثاني 1308ه الموافق ل 4 ديسمبر 1889م. وأسرة ابن باديس في قسنطينة أسرة علم و نبل، والده محمد مصطفى صاحب المكانة العالية من حملة كتاب الله، كان عضوا في المجلس الجزائري الأعلى والمجلس العام مدافعا عن السكان المسلمين بالعمالة القسنطينية، كما صرف عن ابنه عبد الحميد كيد الاستعمار.
2 – طلبه للعلم: حفظ القرآن وعمره 13 سنة، وقدم ليصلي بالناس التراويح ثلاث سنوات متتابعات في الجامع الكبير بقسنطينة. أخذ مبادئ علوم الشريعة واللغة العربية عن الشيخ حمدان لونيسي، ورباه على العلم والأخلاق الفاضلة. وانتقل -رحمه الله -إلى جامع الزيتونة بتونس سنة 1908م ليطلب العلم هناك، استفاد من علماء أجلاء منهم العلامة محمد الطاهر بن عاشور (صاحب تفسير التحرير والتنوير)، ومحمد الخضر حسين الجزائري (شيخ الأزهر فيما بعد) وغيرهم. تخرج من جامع الزيتونة الأعظم متحصلا على شهادة العالمية العالية سنة 1912م، وكان الأول في دفعته. تولى التدريس عاما واحدا بالزيتونة، وفي سنة 1912م عاد الشيخ من تونس إلى قسنطينة للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكان أول كتاب درسه كتاب "الشفاء" للقاضي عياض بالجامع الكبير، لكنه أوقف فيما بعد، وفي عام 1913م غادر الجزائر قاصدا أرض الحجاز لأداء فريضة الحج، وفي هذه الرحلة لقي بعض المشايخ وأخذ عنهم، منهم الشيخ العلامة المحقق حسين بن أحمد الفيض أبادي الهندي، الذي نصحه بالرجوع إلى الجزائر لخدمة الإسلام، كما التقى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة المنورة ونشأت بينهما صداقة، وقد وضعا خطة للدعوة والإصلاح في الجزائر في ليالي تلك الأيام المباركة، وعند رجوعه من الحجاز ، مرّ الشيخ ابن باديس على مصر و التقى بعض علمائها الذين أجازوه، منهم الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي بالإسكندرية، وكان مما قاله الإمام ابن باديس حين عودته من رحلته إلى الجزائر: "…فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذا الوطن ".
3 – أعماله الجليلة وبعض مواقفه الخالدة: -حين عودة الشيخ إلى أرض الوطن سنة (1914م)، اتخذ من " الجامع الأخضر" معهدا لنشاطه العلمي والتربوي، فكان يعقد حلقات علمية للطلاب طول النهار وفي المساء يلقي دروس الوعظ والإرشاد على الكبار، ولم يتوقف نشاطه فيه إلى أن وافته المنية. ومن أعظم مشاريعه العلمية التي أنجزها -رحمه الله- في الجامع الأخضر تفسيره للقرآن في مدة خمس وعشرين سنة، حيث ختمه يوم (12 جويلية 1938م)، كما أتم شرح الموطأ للإمام مالك تدريسا أيضا في مدة مقاربة لذلك، حيث ختمه في(31 شهر ماي 1939م). وفي سنة 1925 أصدر الشيخ جريدة "المنتقد" التي أوقفتها السلطات الفرنسية بعد صدور العدد (18) منها نظرا للصراحة التي تميزت بها ومبدئها الانتقادي، وفي السنة نفسها أسس الشيخ -رحمه الله- صحيفة "الشهاب" الأسبوعي التي حوّلها إلى مجلة شهرية ابتداء من (فيفري 1929م)، ولم تتوقف عن الصدور إلى أن أوقفها الشيخ بنفسه عام 1939م بسبب الحرب العالمية الثانية، كما أصدر جرائد أخرى، منها "الصراط" و "السنة" و"البصائر". اتخذ الشيخ من الصحف المذكورة آنفا منبرا لتبليغ دعوته الإصلاحية ومشروعه لنهضة الأمة الفكرية. -اتفق الشيخ ابن باديس مع الشيخ الإبراهيمي على تأسيس جمعية "الإخاء العلمي" في سطيف عام (1924م)، ولكن لم يتيسر ذلك عامها حتى جاء يوم 5 ماي 1931م ( في العام الذي احتفلت فرنسا بمرور قرن على احتلالها للجزائر) الذي أسس فيه مع بقية إخوانه جمعية العلماء الجزائريين بنادي الترقي بالعاصمة، وانتخب -رحمه الله- رئيسا للجمعية. -كما تميز الشيخ -رحمه الله- بعمله الإصلاحي والتعليمي الذي لا مثيل له في ذلك الوقت، كان مشرفا على نحو من 400 تلميذ وربما أكثر أحيانا في معهده بالجامع الأخضر، تدريسا وقياما على شؤون المبيت والإطعام ونحوه، ذلك أن أكثر الطلبة كانوا من غير أهل مدينة قسنطينة. ومن منطلق شعوره بالمسؤولية وورعه وتقواه ما سجل من موقف نبيل للإمام حين بعث ذات يوم السيد زواوي مولود يشتري له نصف لتر من اللبن وأعطاه آنية، فاشترى له صحنا من اللبن إكراما له، ورجع للشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمه إليه غضب الشيخ وقال له في لهجة شديدة صارمة: " ألا تعلم أني بن مصطفى بن باديس، وأنواعا مختلفة من الطعام اللذيذ تعد كل يوم في بيته لو أردت التمتع بالطعام، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك وطلبتي يسيغون الخبز بالزيت، وقد يأكله بعضهم بالماء ". -كان -رحمه الله- ينظم دروسا خاصة للشباب في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة صباح كل أحد ومسائه، ولما أنشئت مدارس التربية والتعليم الأخرى بعد تأسيس الجمعية كان مسهما في توجيهها والإشراف عليها، وكان يلقي دروسا يوميا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الظهر، عدا يومي الخميس والجمعة، حيث خصصهما للرحلات إلى مختلف مناطق البلاد من شرقها إلى غربها بقصد إلقاء المحاضرات والدروس أو توجيه الدعاة. ومن المواقف المؤثرة للإمام المربي في ترشيد المدرسين هذه الكلمة الفائقة حين زار بعض القرى التي خيَّم فيها الجهل وضرب بِجِرانه وجثمت على صدرها الأمية، فشكى إليه بعض مثقفيها حال الأمة بها وما آل إليه أمرها، وقال له كلمة تدل على أنَّ اليأس قد سكن قلبه وسرى في أوصاله: "يا شيخ لا حياة لمن تنادي"، أي إن الناس قد أصبحوا موتى لا يستجيبون لدعوة أحد ولا ينفع فيهم وعظ ولا إرشاد، وهل ينفع تحريك جسم هامد أو يجدي ضرب في حديد بارد؟، إن كلمات الشيوخ ووعظهم لا يعدو أن يكون صرخة في واد أو نفخة في رماد على حدِّ قول الأول: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي ونار لو نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد فبادره الإمام ابن باديس مصحِّحا ومرشدا وباعثا الأمل في نفوس السامعين، فقال: "لا تقل "لا حياة لمن تنادي" ولكن قل:"لا منادي ينادي"، فأكثروا إذن من المناداة إن أردتم أن يستجاب لكم ولا تخافوا من الراقدين، ولا سيما إذا طال رقادهم كما هي الحالة عندنا".
-كان الإمام ابن باديس يؤدي عمله بكل حزم وعزم وثبات وإتقان، وينتقل من مكان إلى مكان يدعو الناس بالحجة والبرهان. كان يخاطب الوجدان ويعمل على إيقاظ الضمير وإثارة روح النقد البناء. –عمل على غرس العقيدة الإسلامية السليمة، و دعا –رحمه الله- إلى الإيمان الصحيح المبني على العلم، لأن الإنسان لم يخلق ليقاد كما تقاد البهيمة، كما بين حقيقة الإسلام بعدما طال تعاليمه السمحة الكثير من التزييف.
-عمل على إحياء القيم الأخلاقية المرتبطة بتقوى الله وحسن التعامل ونفع الإنسانية، ومما قاله -رحمه الله – في هذا: "أنا زارع محبة، وكن على أساس من العدل والإنصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان". -جعل حياته كلها وقفا لله تعالى خادما للدين والبلاد والعباد، أصدر بيانا حين اختير لرئاسة المؤتمر الإسلامي الجزائري سنة 1936م معتذرا عن قبول المنصب، قائلا فيه: " قررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي الجزائري في جلستها الأخيرة بنادي الترقي إسناد رئاسة المؤتمر إلي بدون أخذ رأيي في هذه المسألة الخطيرة، إذ كنت غائبا عن تلك الجلسة، وأنا مع شكري لإخواني الذين أولوني ثقتهم الاجتماعية، ومع كون الأمة الجزائرية لم تعرف عني في وقت من الأوقات الفرار من الواجبات، مع كل هذا أعلن لهؤلاء الإخوان أنهم غفلوا حين أسندوا الرئاسة إلي عن أشغالي العلمية التي تستغرق أوقاتي كلها والتي أضحي في سبيلها بكل عزيز، كما غفلوا عن ارتباطي بهيئات علمية مروضة على الشورى لا تعرف غير سبيلها سبيلا، وأنها هي المالكة لحياتي لأني جعلت حياتي وقفا عليها، وبناء على هذا فإني أعلن لهؤلاء الإخوة وللأمة الجزائرية كلها أنني لست لنفسي وإنما أنا للأمة أعلم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها، وأن كل ما يقطع علي الطريق أو يعوقني عن أداء واجبي في السبيل فإني لا أرضى به ولو كان ذلك في مصلحة الأمة". -عمل – رحمه الله- على الحفاظ على وحدة الأمة وبين خطر النزاع والتشتت، ومما قاله في هذا:" لاشيء يرضي أعداء الدين والوطن كتفرقنا وتشتتنا، فهم يتحدون ويتجمعون ويتكتلون من أجل تحقيق غرضهم وتنفيذ مخططهم، وأي تفرق أو تصدع فهو خدمة لهم، وعمل في سبيل تقويتهم، وإن قوتنا في وحدتنا، ووحدتنا نتيجة طبيعية لتفاعل عناصر وطنية ودينية وروحية ستظل على الدوام محقق وجودنا، ومثبت أقدامنا ومقرر مصيرنا"، وقال أيضا:"إن أبناء يعرب وأبناء أمازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشر قرنا، ثم ذابت تلك القرون تمزج مابينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في اليسر والعسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام.
-وفي الجانب السياسي، حارب الإمام ابن باديس الاستعمار الفرنسي وعملاءه وبين خطره على الجزائر المسلمة، وراح يبيّن آفات المستعمر المهلكة، ويبث حب الوطن بمقالاته السياسية الهادفة التي كان ينشرها، و كان صريحا وجريئا وحكيما، ومن ذلك أنه لما قال بعض النواب الجزائريين سنة 1936: « الجزائر هي فرنسا وإنه على الجزائريين أن يعتبروا أنفسهم فرنسيين»، وقال هذا النائب:« إنه فتش عن القومية الجزائرية في بطون كتب التاريخ فلم يجد لها من أثر، وفتش في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر »، تصدى لهم الإمام -رحمه الله تعالى- قائلا :« إننا فتشنا في صحف التاريخ وفي الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة، كما تكونت ووجدت أمم الدنيا كلها، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمة في الدنيا، ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت ». ومن مقالته الخالدة في كره الاستعمار والاستدمار الفرنسي ما قاله في لهجة صادقة صارمة:" أما أنا والله لو قال الاستعمار لي قل لا إله إلا الله ما قلتها…." لعلمه خبثهم وحيلهم ولمعايشته ظلمهم واستبدادهم.
4 –تلاميذه:
أخذ عن الشيخ عبد الحميد بن باديس ثلة كبيرة من طلاب العلم، من أبرزهم: العلامة الشيخ مبارك الميلي والشيخ الأستاذ الفضيل الورتيلاني والأديب الشاعر محمد سعيد الزاهري والأديب الشاعر الهادي السنوسي والشيخ الأستاذ أحمد حماني والأستاذ محمد الصالح رمضان، وغيرهم كثير.
5 – من تراثه المطبوع: لم يهتم الشيخ ابن باديس بتأليف الكتب، وإنما بذل جهده وخصص وقته لتأليف الرجال، وبعث مشروع نهضة الأمة فكريا وإصلاحها، ونشر بعد موته بعض تراثه من ذلك: « مبادئ الأصول » « العقائد الإسلامية » التي أملاها على الطلاب بالجامع الأخضر، ومنها «التفسير أو مجالس التذكير » و « رجال السلف ونساؤه »، وهي مقالات كان ينشرها تباعا في الشهاب، ومنها « جواب سؤال عن سوء مقال »، وهذه الثلاثة الأخيرة قد جمعت مع سائر مقالات الشيخ المنشورة في «المنتقد » و« الشهاب » وجرائد الجمعية وأصدرتها وزارة الشؤون الدينية و الأوقاف.
6 – ثناء العلماء عليه: أثنى عليه –رحمه الله رحمة واسعة- علماء كثر من أهل الجزائر وغيرهم من أهل البلدان، ومن ذلك ما قاله عنه صاحبه العلامة العربي التبسي في كلمة مؤثرة وهو يؤبنه : "لقد كان الشيخ هو الجزائر، فلتجاهد الجزائر الآن أن تكون هي الشيخ ابن باديس". و ما قاله عنه رفيقه العلامة البشير الإبراهيمي: "باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المنيرة إلى الغايات العليا". ومما أنقله بدوري للتاريخ ما رأيته وسمعته لما كنت طالبا بالجامعة الإسلامية بقسنطينة ومسؤولا ثقافيا، حين كلفني الدكتور عمار طالبي، رئيس الجامعة، أن أزور الشيخ محمد الغزالي وبعض ضيوفه من السادة العلماء الذين حلوا على الجامعة الإسلامية بمدينة قسنطينة، وأتجول بهم في أزقتها، لكنهم طلبوا مني زيارة الجامع الأخضر الذي كان يدرّس فيه الإمام ابن باديس، دخلوا المسجد وصلوا ركعتين، وبعد الصلاة توجهوا للكرسي الذي كان يجلس عليه العلامة ابن باديس، وقالوا هنا كان يجلس الأسد، هنا كان يجلس العلامة. ومما حصل لي أيضا مع شيخي العلامة المفكر محمد الغزالي –رحمه الله- حين طبع كتابه السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، فرحت بالكتاب فرحا شديدا وأظهرت سروري وانبساطي لشيخي الإمام الغزالي، قال لي –رحمه الله- هل قرأت كتب ابن باديس وعيون البصائر للإبراهيمي، قلت: بعض المواضيع هنا وهناك، فقال متواضعا – رحمه الله- : "أنا أشهرتني وأظهرتني وسائل الإعلام ولم يكن للعلامة ابن باديس والعلامة الإبراهيمي الحظ في ذلك، ولكن أقر أنهما أحسن مني وعيون البصائر لم أر مثلها". رحمة الله على الإمام ابن باديس، فقد كان خير منادٍ في أمته، فاستيقظت بعد رقاد وانتبهت بعد سهاد، فما ذهبت كلماته سدى ولا جهوده ضياعا، وتلك هي آثار الإخلاص في أعمال الرجال.