علماء الجزائر ينفردون بخصائص قلما نجدها عند غيرهم العلم، الجهاد والإصلاح، فالعلم يبقى العطش الذي يؤرق الجزائري ويرّد جميع منابعه ويستقي منها، والجهاد وهو جهاد النفس والتحكم فيها وإدارتها إدارة صارمة، والاصلاح وهو البناء الانساني الذي يعتمد على تربية الناشئة تربية مبنية على الأخلاق القويمة والشخصية السوية السلمية، ومحبة الوطن بقوة وعزيمة، ومن هؤلاء الرجال الذين جمعوا هذه المحامد الكريمة؛ الشيخ أحمد سحنون، الشاعر الأديب والإمام الخطيب. البناء النفساني الإنساني ليس القصد منه تخضيع الإنسان إلى نظريات علم النفس الحديث، وقياس هذا أو ذاك حسب المعايير والقوانين التي أوجدها علماء النفس ومنظروه، وإنما البناء الإنساني هو أن يبنى الإنسان على العلم، امتثالا لقوله سبحانه وتعالى في أمره لنا ''إقرأ'' وهذه القراءة هي التي تحدث الصلاح الذي لا يكون إلا بالأخلاق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع مكارم الأخلاق كلها في شخصه، حتى مدحه خالقه سبحانه وتعالى بالخلق العظيم، وأخبرنا هو عن نفسه الطاهر بمعنى الحديث ''أدبني ربي فأحسن تأديبي''، والمؤدب هو المعلم والمربي، وقد صدق شوقي حين قال: ''سبحانك اللّهم خير معلم علمت بالقلم القرون الأولى'' الشيخ أحمد سحنون الذي تم تكريمه مؤخرا، وتحقيق حلمه وأمنيته بإنجاز ''دار القرآن'' بحي لاكنكورد، بمسجد أسامة بن زيد، هو من العلماء الذين سخرّوا حياتهم كلها في طلب العلم وتعليمه، بل هو من ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم؛ ''أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد''. ولد الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- في واحة العلم وروضته، ببلدة ليشانة ببسكرة، وليس الغريب في هذه المنطقة أن تنبت ثمر النور وعلماء النور، فولد الشيخ رحمه الله سنة ,1907 وكبقية العلماء الكبار الذين تبنئ بهم الأيام وتؤهلهم للأدوار الكبيرة، فتتكلف بتربيتهم وتثقيفهم، فقد توفيت أمّ شيخنا وهو لا يزال طفلا رضيعا، وتولى والده تربيته، وعلّمه القرآن الكريم فحفظه وهو ابن 12 سنة، وبعد حفظه القرآن الكريم الذي جمع الكلم كله، أخذ العلم على عدة مشايخ، منهم الشيخ محمد خير الدين الفرفاري، الشيخ محمد الدراجي، والشيخ عبد الله بن مبروك، فأودعوا فيه علومهم وثقافتهم العربية الاسلامية، ومن بعد ذلك، كان الشيخ رحمه الله يميل إلى الكلمة الجميلة ذات الجرس والوقع في النفوس، وهي الأدب فترعّى من منابعها، ولكن كان موجهه الأول العلامة الذوّاق الشيخ الإمام أحمد بن باديس، فهو الذي اكتشف فيه هذه الموهبة حينما التقى به سنة ,1936 فيحدثنا الشيخ سحنون -رحمه الله- عن هذا اللقاء فيقول: ''إنه جمعني به أول مجلس، فبادرني بسؤاله: ماذا طالعت من الكتب؟ فأخذت أسرد له - لسوء حظي، أو لحسنه - قائمة حافلة بمختلف القصص، والروايات، فنظر إلى نظرة عاتبة غاضبة، وقال: ''هلاّ طالعت العقد الفريد لابن عبد ربه، هلاّ طالبت الكامل للمبرد بشرح المرصفي، واستمر في سرد قائمة من الكتب النافعة، فكانت تلك الكملة القيمة خير توجيه لي في هذا الباب''. الشيخ أحمد سحنون انتهج نهج كبار عصره، مثل بن باديس، العقبى، الابراهيمي ومشايخ جمعية العلماء، واستمر صلبا منافحا مكافحا معلما ومصلحا بلسانه وقلمه، وداعيا إلى ربه بالكملة النافذة والحكمة البليغة، فدعا لبناء مسجد ''الأمة'' ببولوغين، ونظرا لما وجده عليه إمام اللغويين وشيخ الخطباء المتكلمين البشير الابراهيمي من إمكانيات كبيرة في القدرة على الكتابة، كلفه بالاشراف على مراقبة ما ينشر في ''البصائر''، وكان الشيخ سحنون له في ''البصائر'' عمود تحت عنوان ''منبر الوعظ والإرشاد''. وقد قال فيه الشيخ الابراهيمي مخاطبا الشيخ سحنون قائلا: ''إنّ ما تكتبه في البصائر هو حلم البصائر'' وقد تبوأ الشيخ سحنون مناصب في جمعية العلماء المسلمين كالمجلس الاداري، ومعلما في مدرسة ''التهذيب''، ثم مديرا لها. يقول أحمد شوقي رحمه الله: ''إن الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلا'' الشيخ سحنون المجاهد ها نحن نعيش نشوة الانتصار على أعتى احتلال عرفه التاريخ البشري، وهو الاحتلال الفرنسي الذي جعل حقول العلم صحاري، وبالجهل حوّل الانسان إلى وحش ضاري، حيث لم يبق من وسائل المقاومة إلا كسر النصال على النصال، لأن عملية السياسة والمطالب السلمية تسقط كلماتها وصيحاتها قبل أن تصل إلى أذن المحتل الصماء، فلا بدّ من أزيز الرصاص ودوي المدافع والقنابل، خصوصا وأن إعداد الرجال قد تم لخوض المعركة، بعد شحنهم بروح الأباء والأجداد، وقدم في نفوسهم شرارة الجهاد لتندلع حريقا مهولا، لا يترك لاصقة أو باصقة إلا أتى عليها من الاستعمار، فالشيخ أحمد سحنون كان من الرجال الذين علّموا للاصلاح بالسلاحين؛ العلم الذي نصلح به ممارسة الحياة، والسلاح الذي يعطينا مناعة وحصانة لحماية الحياة الكريمة، فعند اندلاع الثورة سنة ,1954 كلفه بعض قادتها بإعداد مجموعة فدائيين من أتباعه، فكون مجموعة كانت من أول المجموعات الفدائية التي باشرت العمل المسلح، انطلاقا من مسجد الأمة سنة ,1953 وقد ألقي القبض على الشيخ سحنون، وتم سجنه سنة ,1956 وتم تهريبه من قبل المجاهدين إلى منطقة أريس بباتنة، ثم مدينة سطيف وبقي وفيا لجهاده حتى سطعت شمس الحرية، حيث يرى القوة -رحمه الله- أنها في القوة المعتبرة وهي: ''القوة المعنوية، من إيمان بالله، ثقة بالنفس، ثبات في مواطن اليأس، وقوة أمل في المستقبل''. كما يرى الشيخ سحنون أن العظمة تكمن في شكيمة النفس فيقول: ''العظمة هي أن تكبح جماح نفسك، وتخضع شهوتك لعقلك، وتشقى في سبيل إسعاد غيرك، وأن تكون كحبة القمح تموت في بطن الأرض ليحي الناس على ظهرها''. ترك الشيخ سحنون رحمه الله عدّة مؤلفات منها: دراسات وتوجيهات إسلامية، ديوان شعر، كنوزنا مخطوط، الشعر المنثور (مخطوط)، مقالات نثرية، ديوان شعر للأطفال (مخطوط). قال عنه الشيخ محمد شريف قاهر: ''الشيخ سحنون رجل قليل النظير، وطنية صدقا ووفاء، وإماما خطيبا، كان متفانيا في حب الجزائر، وكان كذلك إلى أن لقي ربه''. أما الدكتور عمار طالبي فقد قال عنه: ''الشيخ سحنون لعب دورا كبيرا في الدعوة إلى الله، والدور الذي قام به أثناء الفتنة، عندما كان الناس يهمّشون الاسلام ويتمذهبون بالمذهب الإيديولوجي، فلما كان الناس يتهافتون، لم ينضم إلى أي حزب، واعتزل لوظيفة من الجامع الأعظم (الجامع الكبير) واستقال من هذا كله، والتزم الدعوة إلى الله فلزم دار الأرقم على ضيقها يدعو إلى الله، وقد تعرض إلى الاغتيال، هذا الشيخ الإمام متواضع في حياته، هو رجل لم يكن صاحب قلم يكتب من الكتب، كان يكتب من الواقع وهذا ما جعله مؤثرا''. كان رحمة الله عليه يقول ويردد هذين البيتين من الشعر قبل وفاته: ''أنا عن قريب راحل ومهاجر إلى ربي حيث الأمن والراحة الكبرى وأهجر دنيا لم أجد راحتي بها وأهجر من فيها وأسكن في الأخرى'' انتقل الشيخ أحمد سحنون إلى جوار ربه في 08 ديسمبر ,2003 وكانت له جنازة مهيبة، فكان علما من أعلام الجزائر، وقلما من أقلامها، وصدق شوقي حين قال: ''إذا المعلم ساء لحظ بصيرة جاءت على يده البصائر حولا'' فكان الشيخ سحنون سديدا مفيدا مجاهدا صنديدا، رحمه الله وجزاه عنا وافر الجزاء.