التيار الذي نعنيه بالبحث والدراسة، هو التيار السلفي الذي أخذ آخر تشكّلاته بعد 1990، أي بعد أحداث الخليج الثانية، واستقدام القوات الأمريكية لشبه جزيرة العرب، وبعد فتوى أمضاها قرابة 400 شيخ، تجيز فتح أراضي المسلمين لأكبر قوة صليبية، وإنشاء قواعد ضخمة، تنطلق منها طائراتهم وصواريخهم لقتل ملايين الأطفال والنساء والمستضعفين، تحت عنوان جواز الاستعانة بالكفار!. هذه الأحداث الكبرى، وما تلاها من أحداث 11 سبتمبر 2001، وأحداث الربيع العربي على وجه الخصوص، عرّضت التيار السلفي الذي نشأ على عقيدة " ولي الأمر الحجازي " إلى حالة كبرى من التذبذب والاضطراب. فالتيار السلفي منذ نشأته الأولى استُخدم كمرجعية دينية، ذات أصالة لمواجهة الحركات الإسلامية المعتدلة، ولمواجهة أي تغيير تريده الشعوب في المنطقة، وللحفاظ على كرسي ولي الأمر، وتبرير أخطائه وإحاطة حكمه بهالة مقدسة، تجعل الرقاب والأعناق تخضع له طوعا أو كرها باسم الله!، فقال بحرمة الديمقراطية بل بكفرها، وأنّها نظام إفرنجي غربي مستورد من بلاد الكفر والشّرك، يعطي الحكم للشعب بدل أن يكون الحكم لله، مع ذهوله أنّه في دولة ولي الأمر الحكم لشخص ولي الأمر وعائلته فقط!. وقال بعض السذج منهم، يبرّر عدم جواز إعطاء الحكم للشعب: " وماذا لو أراد الشعب غير الإسلام!" (راجع مدارك النظر)، ولم يسأل نفسه: " وماذا لو أراد شخص الحاكم غير الإسلام ؟!"، وقالوا الأحزاب بدعة منكرة، وتفريق للأمة، واستدلوا على حرمة الأحزاب، بمثل قوله تعالى: " إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، لست منهم في شيء "، وقوله: " فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون "، وقوله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا". وقالوا بحرمة الانتخابات، لأنّها عادة أوروبية كافرة، ثم الانتخابات تسوّي بين العالم والجاهل، وبين الذكر والأنثى، وبين المسلم والمسيحي، وكل ذلك مخالف للدين في ثوابته ومحكماته. واعتبروا الدخول إلى البرلمان شركا وناقضا من نواقض الإيمان، وألّف أحد شيوخهم، وهو سيد سعد الدين الغباشي: " القول السديد في بيان أنّ دخول مجلس الشعب ينافي التوحيد ". وزعموا أنّ النّظام الإسلامي هو الأحكام السلطانية، وما نشأ في رحمها من أحكام في القرون الخالية، ونسوا أنّ تلك الأحكام في شكلها وأدواتها وإجراءاتها أحكام سلطانية ظهرت في فارس والروم وقلّدهم فيها المسلمون. وظلّ التيار السلفي، خصوصا الدعوة السلفية في الإسكندرية، المموّلة والمدعمة من أرض الحجاز، في حالة توثب دائمة لمواجهة الإخوان المسلمين، وكشف ضلالاتهم الحزبية، وانحرافاتهم السياسية، وإدانتهم من منطلقات عقدية، وأنهم يؤمنون بالأحزاب والتعددية، ويؤمنون بالديمقراطية، ويشاركون للدخول إلى البرلمان، ويُشركون المرأة وهي عورة محرّم إخراجها، ويتعايشون مع الأقباط، ويحيّونهم بلقب الأخوة، وهو مظهر من مظاهر الشرك، وألفوا: " الخوارج دعاة على أبواب جهنم "، و" هذه القطبية فاحذروها "، و" تحذير الشباب من فتنة الخروج والمظاهرات والإرهاب ". والغريب أنّهم بنوا كل هذه الآراء السياسية، والتي من الواجب مناقشتها في باب الفروع، على أسس عقدية، حدّية غير قابلة للنقاش، ولا للمحاورة ولا للتسامح مع أصحابها. وعلى هذا الأساس قالوا ببدعية حركة الإخوان، وكل حركة إسلامية مشاركة في السياسة، فنصحوا، بل أمروا أتباعهم بهجرهم ومقاطعتهم، وقالوا بعدم جواز إلقاء السلام عليهم، بل عدم جواز ردّ السلام عليهم، بل جوّزوا إيذاءهم والضغط عليهم حتى يتوبوا، وحتى إن تابوا لا يؤمن جانبهم ، فهم كما زعموا أخطر من اليهود والنصارى!، وكل كتب المدخلي والجامي، ورجال وشيوخ الدعوة السلفية بالإسكندرية تفوح بذلك. عندما انطلقت ثورات الربيع العربي، وقف التيار السلفي منها موقف الرافض، ثم المضطرب المتذبذب، ثم عندما انتصرت في تونس ومصر تحديدا، أعلنوا الظهور ومارسوا نقد ولي الأمر بأثر رجعي، مع استثناء بعض أطياف التيار السلفي، التي انخرطت من البداية وأفتت بجواز المظاهرات والاعتصامات، كما فعل محمد عبد المقصود. والتيار السلفي غير متجانس إيديولوجيا وفكريا، وحديثنا مركز على التيار المدخلي أوالجامي وتوابعه في الدول العربية، فهو " حزب سلفي " يشتغل لصالح أجندات ولي الأمر الحجازي، وهذا ما يفسّر تحولاته، فعندما لا يكون أي مجال للتغيير، فهو يشتغل على إدانة الديمقراطية والتعددية، والحركات الإسلامية المشاركة في السياسة، يجتهد في أن يقطع عنها المدد الجماهيري، وينزع عنها الشرعية الدينية، وعندما يُفتح المجال يشارك وينخرط، ويحاول منافسة الحركات الإسلامية المعتدلة، أو مزاحمتها ، أو حتى الوقوف مع خصومها لإلحاق الهزيمة بها. فبعد ثورة 25 يناير 2011، أفتت الدعوة السلفية، التي ظلت عقودا تجرّم التعددية والحزبية، وتكفر الديمقراطية؛ بجواز إنشاء حزب سياسي يُمثل الجماعة، وأنشؤوا حزب النور، وشاركوا في الانتخابات، ودخلوا إلى البرلمان، وأشركوا المرأة، وافتخروا بذلك، وذهبوا إلى الكنيسة، وحضروا القداس، وهو في مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ ابن تيمية، وعموم مذاهب السلفيين، ناقض من نواقض الإيمان. ومارسوا في اليمن نوعا من التحايل الإيديولوجي، فأسسوا حزبا، ورفضوا الحديث عن الديمقراطية. وأقدم التيار السلفي أو الحزب السلفي، على ممارسات عملية لا تتوافق مع الإنتاج الفكري السابق لهم. فبعد أن كانوا يتبنون قول سهل التستري (ت 283 ه)، وينشرونه في كتبهم : " هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة، اثنتان وسبعون هالكة، كلهم يبغض السلطان، والناجية الواحدة التي مع السلطان "، أصبحوا يتبنون التعددية والحزبية، والمنافسة والإيمان بالانتخابات، والتداول على الحكم . وكانت مبررات حزب النور حسب ياسر برهاني: القبول بالآليات الديمقراطية لا بفلسفتها الإيديولوجية. الديمقراطية التي قبلناها منضبطة بالشريعة. لا نقبل أن يكون الحكم لغير الله، ولكن نقبل الانتخابات على ما فيها من مخالفات، فهي أقل مفسدة حتى لا نترك المجال للعلمانيين والإسلاميين الآخرين. الشورى يمكن أن تتحقق من خلال الانتخابات. وكل هذه المبررات قال به الإخوان المسلمون، ومنذ عقود من الزمن، وردّوا بها على اتهامات السلفية آنذاك، التي كانت ترفض العمل السياسي، وتقول بكفر الديمقراطية. وكما أجازوا عمليا بل وشاركوا في التمرد ضد ولي الأمر في سوريا، واليمن وليبيا، ومن قبل أجازوا الجهاد في أفغانستان، والشيشان والبوسنة، وهذا ما يبين تبعيتهم لأجندات ولي الأمر الحجازي، الذي يدور في المجال الذي تسمح به أمريكا فقط، ولذلك تجد السلفية الحزبية التي نشأت في مخابرهم، وإلى الآن لها مواقف مخزية وسلبية من الجهاد الفلسطيني، حتى قال بعضهم بعدم صحة الجهاد هناك، وصرّح ولي الأمر الحجازي رسميا أنّ ما يحدث في فلسطين إرهاب!. فبعض التيارات السلفية القريبة من الفكر القطبي، أو الحركي، والبعيد نسبيا عن أجندات ولي الأمر الحجازي، تختلف في مواقفها وآرائها عن السلفية الحزبية التي نشأت في أنابيب المخابرات، والتي من أهدافها منع أي نهضة سياسية للأمة، حتى يظل الحكم بعيدا عن الإرادة الشعبية، وكل هذه الترسانة توظّف لهذا المشروع الخادم لمشاريع الكبار في المنطقة. فالتحولات السلفية المرتبطة بالحزب السلفي ليست ذات صدقية، ولا قائمة على رؤية ولا أدلة، فمن غير المعقول الانتقال بسرعة من الكفر إلى الإيمان، وأعتقد أن الحزب السلفي سيستمر في أداء ما يُطلب منه، كما رأينا ذلك في الحالة المصرية، والحالة اليمنية، والحالة الأردنية تحديدا.