وككل التحولات التاريخية الكبرى، لا سيما تلك التي تعقب ثورات شعبية تطيح بموازين القوى القديمة وتسعى لإرساء موازين جديدة، تعترض بناء النظام الجديد تحديات وعوائق طبيعية، حيث تتحدث كتب التاريخ على أن للثورة عمر معدله هو 13 سنة حتى يستقر نظامها وترسو على عتبة تمكنها من بناء منظومات مؤسسية جديدة توفر فرص التقدم والإقلاع، وقد أشار الدكتور عز الدين عبد المولى، في دراسة له إلى بعض هذه التحديات جملها فيما يلي: 1. تحدي الحركات والقوى المضادة للثورة إن النظم الاستبدادية بطبيعتها العنكبوتية، حيث تتداخل مصالح الحكم برأس المال، وتُستخدم آلة الإعلام لتجميل قبح السياسة، وتُستقطب النخب الثقافية لتتحول إلى أجهزة لتبرير سياسة النظام فتستقيل من أداء دورها الإبداعي والنقدي وتكتفي بلعب دور "كلاب الحراسة" بتعبير بول نيزان، تتحول في لحظة السقوط إلى حركة مقاومة تبرز وتخمد بحسب ما تتخذه قوى الثورة من سياسة تجاهها، وتستخدم كل السبل ما كان مشروعا وما لم يكن، لاستجماع قوتها والتحرك في الوقت المناسب لاسترداد مواقعها. ولأن الثورة إذا قامت لا تطيح بالنظام كله من الوهلة الأولى وإنما تكثّف جهدها لإسقاط رأس النظام أولا، فإن ما ينشأ عن الثورة من روح انتصارية وما يعقبها من تعقيدات الانتقال الفجائي والسريع، غالبا ما يغرق القوى الثورية في تفاصيل تلهيها عن مقاومة ما بقي من النظام القديم، وتفكيك البنى التي كانت تسنده وتستفيد منه. تلك الطبيعة العنكبوتية يصعب معها تحديد ما يبقى من تلك البنى وما ينحلّ منها على إثر سقوط رأس النظام، فلكل بلد ظروفه ولكل ثورة طريقتها في التعامل مع الحركة المضادة لها. وفي المثال التونسي، تظل بقايا "التجمع" الذي كان حاكما في زمن بن علي وحُل بقرار قضائي بعد الثورة، المحور الذي تدور حوله وتلتقي معه ذاتيا وموضوعيا بقية القوى التي أطاحت الثورة بمصالحها أو تضررت مواقعها المادية والرمزية جراء ما أفرزه الانتقال الديمقراطي من قوى وأفكار وسياسات جديدة. ولا يقتصر الحديث هنا على بقايا النظام القديم أو من خدمه وتحالف معه، بل يشمل أحيانا بعض القوى الثورية التي قد تكتشف أن تناقضها مع النظام الذي أفرزته الثورة لا يقل حدّة وعمقا عن تناقضها مع النظام الذي أطاحت به. ومن يريد أن يرصد الحركة المضادة للثورة في تونس، لابد وأن يقف على نفَسها مبثوثا في وسائل الإعلام، وفي عدد من التشكيلات الحزبية، وفي ساحات القضاء، وفي دورات الانفلات الأمني المنتظمة، والتي يصعب تصور حدوثها عفويا دون تخطيط وتنسيق. نجحت الثورة التونسية إلى حد الآن في ترسيخ أقدامها وخاصة على الصعيد السياسي وبناء المؤسسات الانتقالية ولكنها ما تزال تواجه صعوبات كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، جراء انكشاف زيف مقولة "المعجزة الاقتصادية" التي روّجها النظام السابق طيلة فترة حكمه وساعده على ترويجها دوليا ولدى المؤسسات المالية العالمية من كان يدعم سياساته في الخارج. * التحدي الاقتصادي والاجتماعي إلى جانب الركود والارتباك وأحيانا التوقف في السير الطبيعي لبعض القطاعات الاقتصادية أثناء الثورة وبعدها مباشرة، نظرا لما يصاحب الثورات عادة من فوضى وانفلات وانهيار للانضباط العام، فقد ورثت الثورة التونسية تركة اقتصادية ثقيلة كشفت عن حجم التناقض بين الخطاب السياسي لنظام بن علي بأرقامه الوهمية، وواقع الحال الذي لا يبعد وصفه كثيرا عن الوضع الكارثي. فنسبة نمو الاقتصاد كانت سلبية، حيث بلغت 1,8 تحت الصفر، كما كشفت الأرقام أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 700 ألف عاطل بنسبة تتجاوز 18% من القوة العاملة. وكان آخر المؤشرات السلبية لأداء الاقتصاد التونسي تخفيض التصنيف الائتماني السيادي لتونس إلى الدرجة عالية المخاطر بسبب ضعف مؤشرات الاقتصاد والمالية العامة والدين الخارجي. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد خلّف نظام بن علي وراءه نسبة عالية من الفقر تمس ربع سكان تونس، حيث وصلت إلى نحو 25 بالمائة، وذلك وفقاً للمقاييس العالمية التي تحدد عتبة الفقر بدولارين للفرد الواحد يومياً. ونظرا لاختلال ميزان التنمية الجهوية، سواء في العهد السابق، أو في عهد الرئيس بورقيبة، فإن الفقر يسود في أغلب المناطق ما عدا الشريط الساحلي، حيث تتركز المشاريع التنموية الكبرى وتُضخ رؤوس الأموال والاستثمارات الداخلية والخارجية وخاصة في القطاع السياحي الذي يشغل نسبة نحو 12% من اليد العاملة التونسية. في البلاد ترتفع نسبة الفقر في المناطق الداخلية وخاصة في الجنوب والغرب والجنوب الغربي، حيث تتركز الاحتجاجات وتتواصل منذ انطلاق شرارة الثورة وإلى يومنا هذا، مطالبة بتحسين ظروف العيش وتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات الأساسية المتردية في جل تلك المناطق والمفقودة في بعضها من الأساس. لا يكمن الخطر في تلك الاحتجاجات و في موجة الغضب التي تصاحبها فتتحول أحيانا إلى أشكال من العنف تستهدف مصالح الدولة وممثليها ورموزها فحسب، وإنما في تهديدها لاستقرار تلك المناطق وهروب المستثمرين إلى مناطق أكثر أمنا، وربما مغادرة البلاد أصلا، فيستمر التهميش وتستفحل البطالة وندخل في حلقة مفرغة يصعب كسرها والخروج منها. ورغم هذه الصعوبات، والتي من المنتظر أن يطول أمد معالجتها، فإن هناك أربعة إنجازات أساسية تحققت في عهد الحكومة الانتقالية: أولها منع الاقتصاد الوطني من الانهيار، وثانيها الحفاظ على حد معقول من احتياطيات النقد الأجنبي، وثالثها السيطرة على التضخم، وآخرها عكس المسار السلبي لنسبة النمو واستعادة الاقتصاد نموه الإيجابي بتحقيق ارتفاع ما زال الجدل بشأن نسبته الحقيقية دائرا. 1. تحدي المحيط الإقليمي كما كسبت الثورة التونسية أصدقاء في محيطها الإقليمي وعلى الصعيد العالمي، لا سيما بعد سقوط نظامي مبارك والقذافي وبعد نجاح النظام المغربي في إدخال إصلاحات سياسية ودستورية أعادت توزيع مناسيب السلطة بين مكونات النظام السياسي، ومنحت الحكومة صلاحيات لم تكن تتمتع بها الحكومات السابقة، فإن ثمة من بين القوى الإقليمية القريبة والأبعد نسبيا من يرى في الربيع العربي تحولا ليس في مصلحته. ومثلما توجد في الداخل قوى مضادة للثورة، ففي الخارج أيضا قوى مضادة للثورة تسعى لإرباكها سعيا للحد من تأثيراتها، سواء عبر العمل الميداني المشترك بين طرفي الداخل والخارج، أو بتقديم دعم استخباراتي ومادي ولوجستي لمجموعات عابرة للإقليم تشترك في نظرتها للثورة مع نظرة تلك القوى الإقليمية وتلتقي معها موضوعيا على إجهاضها. ولا تزال قوى الأمن التونسية تواجه الاختراقات الأمنية المتكررة عبر حدودها الجنوبية والغربية، وسيظل المحيط الإقليمي مؤثرا إلى حد كبير في مدى تقدم التجربة الانتقالية في تونس أو تعثرها، لا سيما مع التطورات التي تشهدها مالي والتدخل الفرنسي عبر الأجواء الجزائرية، وما يمكن أن ينجرّ عنه من تهديد لأمن المنطقة المغاربية بأسرها. في حال نجاحه، سيدفع التدخل الفرنسي مدعوما بحلفائه الأفارقة والأوروبيين والأمريكيين، القاعدة وعناصر الجماعات المسلحة إلى إعادة انتشارها خارج شمال مالي، ما يعني ذلك تدفقا للسلاح والمقاتلين واللاجئين إلى الدول المجاورة.. ولن تكون تونس بوضعها الأمني الهش بمنأى عن تلك التداعيات التي ستضيف إلى تعقيدات التجربة الانتقالية عناصر إرباك جديدة. * تحدي الانتقال من شمولية الرؤية إلى الفصل بين الدعوي والسياسي: في المؤتمر العاشر لحركة النهضة أعلن رئيسها الشيخ راشد الغنوشي، عن الفصل بين الدعوي والسياسي، أو ما سمي تونسيا بالانتقال من الإسلام السياسي إلى الإسلام الديمقراطي، وتقول وثائق المؤتمر العاشر إن حركة النهضة اليوم هي حزب سياسي صرف لا يشتغل بما كان يشتغل به منذ تأسيسه و هو الدعوة الإسلامية، قرار الحركة ب"الفصل الكامل بين الدعوي والسياسي" في عملها يعني أنها ستتجه إلى التخصص الوظيفي، بحيث يتفرغ الحزب للعمل السياسي الميداني وتحال بقية النشاطات إلى المجتمع المدني، اعتبر رفيق عبد السلام ذلك محطة من محطات التطور التي تمر بها النهضة. فالتصور السياسي لحركة النهضة اليوم تجاوز الكثير من المفاهيم التقليدية التي تأسست عليها، مثل الحديث عن الدولة الإسلامية، ومحاربة التغريب، و أسلمة المجتمع، لتتحول إلى حزب سياسي أقصى طموحه تقديم حلول فعلية وواقعية للمشاكل التي تعانيها البلاد " اليوم أصبحت فكرتنا إصلاحية أي إصلاح ما هو موجود باعتبار أنه إثر الثورة ماهو موجود بات قابلا للإصلاح"، كما يقول الغنوشي. كما طورت النهضة خطابها فيما يخص تعاملها مع الآخر السياسي؛ حيث لم يعد منطق الخصومة الإيديولوجية هو الأساس الذي تقوم عليه علاقتها مع القوى الأخرى ليحل محله منطق التعاون والتحالف من خلال مقتضيات سياسية تفرضها المصلحة وطبيعة المرحلة، لكن عملية الفصل التي أعلنت عنها قيادة النهضة في مؤتمرها العاشر هي فرصة وتحدي في نفس الوقت لأن عملية الفصل هذه عملية مهمة وأساسية في مشروع النهضة رغم أنها ليست اجتهادا تونسيا سابقا، فقد جرب في المغرب والأردن بطرق مختلفة منها ماهو ناجح وعملي ومميز (النموذج المغربي )و ومنها ماهو فاشل أدى إلى صراعات لا تنتهي (الأردن والعراق مثلا)و ولذلك فالعملية ليست مجرد إعلان وانتهى الأمرو ولكن لابد أن تخضع إلى برامج وعمليات فكرية وسياسية لا تجعل من النهضة في المستقبل حزبا من دون هوية ثقافية ولا فكرية على مستوى البدائل والبرنامج الاجتماعية والاقتصادية التي تقدمها للمواطنين، وهو تحدٍ آخر ينضاف إلى التجربة. ويبقى الدرس الكبير للنموذج التونسي بعد ثورات الربيع العربي هو النجاح في صياغة خطط التحول الديمقراطي وإدارة المرحلة الانتقالية، فقد نجحت القوى الثورية التونسية في الاتفاق على آليات واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، تبدأ بانتخاب مجلس وطني تأسيسي، لإدارة هذه المرحلة مهمته تشكيل حكومة انتقالية وكتابة دستور جديد، ثم الإشراف على الانتخابات التشريعية فالرئاسية، هذا هو الخط المستقيم الذي سارت عليه مرحلة التحول في تونس. صحيح أن أزمات وعقبات وعراقيل وضعت في طريق هذا التحول، إلا أن المحصلة النهائية هي تنفيذ مساره، ذلك أن الواقعية السياسية التي تميزت بها قيادة حركة النهضة تأسست في لحظات التوتر والأزمات الخانقة التي مرت به التجربة التونسية، ففي كل مرة يخرج فيها الشعب التونسي إلى الشارع معترضا محتجا على الترويكا الحاكمة التي تتزعمها النهضة، أو على محاولات إرهاب القوى الوطنية الأخرى، باغتيال بعض رموزها، كانت النهضة تناور بالعقل السياسي ما وسعها إلى ذلك سبيلاً، وتستخدم أقصى ما يمكنها لكسر إرادة المحتجين، ولكن في الوقت الذي تتأكد فيه النهضة من صلابة الإرادة الشعبية، تتحول إلى المرونة السياسية، وشواهد ذلك كثيرة ونعتبرها في هذه الدراسة مقدمة أساسية في إنجاح المرحلة الانتقالية بعد ثورة الياسمين: (1) إقرار دستور جديد، صوت عليه بالموافقة 200 عضو من جملة 216، واعتراض 12 عضوا، وتحفّظ 4 أعضاء فقط، ولأن الأغلبية كانت بيد الترويكا (أحزاب النهضة والتكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية)، فقد ماطلت كثيراً، وحاولت تكراراً إدراج مواد لا يوافق عليها التونسيون، إلا أنها انصاعت في النهاية للحركة الجماهيرية، وأقرت المواد الدستورية التي يتوافق عليها كل أطياف الشعب التونسي. (2) في أعقاب اغتيال المناضلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، اندلعت المظاهرات مطالبة بتخلي الترويكا عن الحكم، وتشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، وهو ما حدث بالفعل في نهاية يناير 2014. (3) قبول النهضة بمبدأ تداول السلطة، وإقرارها بالهزيمة أمام حركة نداء تونس في الانتخابات التشريعية، واستعدادها للعمل في صفوف المعارضة، ثم قررت بسيادة المشاركة في حكومة النداء. (4) حسم النهضة قرارها بعدم تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية، ما ينم عن نضج سياسي، وحنكة في مراعاة الوضع الداخلي في تونس، جنبا إلى جنب مراعاة الأوضاع والمتغيرات الإقليمية والدولية، وقراءة جيدة لتحول الموقف الغربي والأمريكي بخصوص تجربة حكم قوى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ومن دون شك، فان هذا المسار الذي اتخذته حركة النهضة في التعاطي السياسي مع الأحداث المتسارعة في تونس وفي المنطقة وطبيعة العلاقات التي تأسست على إثر هذا التفاعل، سواء مع الأحزاب أو مع دول الجوار خاصة الجزائر، كما أنه أكسب النهضة خبرة كبيرة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية فإنه أيضا أضعف حاضنتها الشعبية ووعائها الانتخابي، ولكنه وهو أمر طبيعي في حياة الأحزاب السياسية التي تملك رؤية وطنية وتتعاطى ببراجماتية وواقعية مع الأحداث، لكن فرص الاستدراك دائما قائمة إذا عرفت حركة النهضة كيف تعالج أخطائها السياسية والتنظيمية الهيكلية وتنظر إلى المستقبل وفق خصوصية العمل السياسي والاجتماعي والمجتمعي والدعوي والدبلوماسي والبرلماني والفكري وتعطي لكل عمل ووظيفة الأهمية والأولوية، فإنها ستصبح نموذجا في الحركة الإسلامية تتلمذ عليه الأجيال والقيادات، سيما إذا أحسنت الصياغة والتصميم والتسويق وإدارة الصراع السياسي.