"وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" …الحج: 27، 28 الإنسان مسافر أبدا، تبدأ رحلته في الحياة منذ تكوينه جنينا، خلق ليكابد أمر الدنيا والآخرة، حياته كلها سفر درى أم لم يدر، الدم يسافر في عروقه وأنفاسه تجري لا تتوقف…يسافر فكره بين محمود ومذموم، حركته دائمة وفعله متقلب بين خير وشر, وصالح وطالح، ما له من ذلك بد وإنما له الخيار في توجيه بوصلته ليعمل صالحا الرب يرضاه والنفس له تطمئن أو يعمل غير ذلك فيذوق عاقبة أمره خسرا. كان السفر للحج قديما شاقا وكانت وسيلته مشيا أو ركوبا على دابة واليوم تقلع به طائرته أو تمخر عباب البحر سفينته والمأمول منه أن يقلع عن كثير مما كانه ليعود بعد رحلته كيوم ولدته أمه. ورحلته للحج رحلة أبدان وسفر وجدان يقلع عن كل خطإ منه كان "فسفره سفران سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحارى والفلوات وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السموات وأشرف السفرين السفر الباطن". إحياء علوم الدين (2/ 244). والرحلة إلى الحج رحلة تربوية إيمانية, خلالها يحن القلب للبيت العتيق، ويطير فرحًا على طول الطريق, يحدوه الشوق وتفيض مشاعره لأداء الشعائر بالمشاعر, والمسافر للحج زاده التقوى, ومظهره مظهر العبد لله, يستشعر توحيد الله من قصة الخليل إبراهيم, وينتفع من سيرة حبيب الرحمن محمد, ويتذكر أن هذا البيت بنته الملائكة لآدم (عليه السلام , وظل لأبنائه من بعده، ثم رفع قواعده إبراهيم (عليه السلام) ومعه نبي الله إسماعيل (عليه السلام), وحج إليه كل الأنبياء والمرسلين, والصالحين من الصحابة والتابعين وتابعيهم عبر العصور وكر الدهور, يحلق بروحه معهم، ويتمنى اللحاق بهم والحشر معهم، يرتبط قلبه بحب تقليدهم وتتحمس نفسه لدراسة قصصهم، والسير على هداهم. يعلم أن رحلته ليست ترفيها بل تعب ومشقة وهي تحتاج لتهيئة بدنية ونفسية ومالية وأخلاقية. "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ" البقرة 197. الحج رحلة وسفر وهجرة إلى الله, حيث يخالف الحاج عاداته ويخرج عن مألوفاته, ويلتقي أقواما لم يكن له بهم عهد, ويتجرد من ملبوساته, وقد كان في أهله منعما, ينام في العراء ويتحرر لسانه من ترديد الكلام المألوف، ويجرد عقله من التفكير في قضايا الدنيا الفانية، ويُقبل على الحق بالكلية، يدخل إلى حرام مكة وقد أصبح متجرداً محرماً، لا يشغله شيء عن ذكر الله. ومدار سفرالحج على مجاهدة النفس ومحاربتها في ردها عن عوائدها ومألوفاتها, ومن عجز عن ذلك لم يكن مسافرًا بالقلب وإن انتقل بالبدن. وهنا يأتي دور الزاد وخيره زاد التقوى, وأوله الإقبال على الحج بهمة عالية وإخلاص وتوبة, ورد المظالم إلى أهلها مع إعداد المال الحلال، وتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلق بالأخلاق الفاضلة. ولئن كان أكثر الناس يهتمون بالوثائق والمتاع والأموال-وهي ضرورية ولا شك- فإن مما لا ينبغي أن يغفل عنه عاقل, أو ينساه مؤمن, أن يتعلم أحكام المناسك قبل أن يخرج من بيته حتى يؤدي مناسك الحج على الوجه المأمور به, فلا يجوز لأحد أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه, وقد نجح إخواننا الأندونيسيون في تنظيم حج ربع مليون حاج وتزامن نظام الحج البديع المتبع عندهم مع الثورة الصناعية والزراعية التي جعلتهم ضمن العشرين الكبار اقتصاديا في العالم. ولا يستغني أحد عن تعلم كيفية الحج وأحكامه ومناسكه, يأخذها من عالم ثقة, أو يقرؤها من مُصَنَّف–كتاب-ثقة, يُدِيم مُطَالَعَته وَيُكَررُها في جَميعِ طَريقِهِ لتَصِيرَ مُحَققَةً عِنْدَهُ. والفقه يؤخذ من العلماء والفقهاء لا من القصاص والحفاظ, ومَثَلُ الفقيه والحافظ كمثل الطبيب والصيدلي, الأخير يملك في محله كل أنواع الأدوية, ولكن الذي يصف الدواء ومقداره وكيفية استعماله إنما هو الطبيب وهو في مثالنا الفقيه. وقد أورد الحافظ ابن عبد البر في كتابه أن الأَعْمَش خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَلَمَّا صَارَ بِالْحِيرَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ اذْهَبْ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَكْتُبَ لَنَا الْمَنَاسِكَ. والأعمش -سليمان بن مهران شيخ المقرئين والمحدثين-هو إمام الدنيا في زمانه في الحديث, وهو شيخ أبي حنيفة في القراءة. ……وللحديث بقية