…في المقر الجديد للسلطة الفلسطينية في أريحا، أدّت الحكومة الفلسطينية الجديدة اليمين الدستورية على مصحف وكتابي العهدين القديم والجديد. عاد عرفات إلى غزة، ثم إلى القاهرة، ثم إلى باريس ليلتقي برابين وبيريس، ليعود إلى تونس، قبل رحيله النهائي إلى فلسطين. * بناء السلطة الوطنية في الأراضي الفلسطينية في 12 يوليو 1994، وصل عرفات وبرفقته زوجته سهى ونحو ثلاثين من معاونيه إلى غزة، حيث توجه إلى مكتبه المتواضع، وعقد أول اجتماع رسمي مع كبار المسؤولين، وكان في انتظارهم مهمات ضخمة، فخصصه إلى ثلاثة أولويات: تنظيم قوى الأمن، والاقتصاد الفلسطيني، والمدارس وانتظام التعليم. تلك المهمات التي أعطى فيها توجيهاته المباشرة للعمل على حلّها. كان عام 1994، عام الاعتراف الدولي بفلسطين، والسلطة الوطنية، حيث تسلّم عرفات عدة جوائز عالمية كان آخرها جائزة نوبل للسلام التي منحت له ولرابين وبيريس تسلّمها في العاصمة النرويجية. في هذا الوقت، الذي بدأت المحادثات لإعداد "أوسلو الثانية" ولقاءات عرفات مع رابين، أقدمت قوات "الأمن الإسرائيلي" على اغتيال أحد القادة الكبار في حركة الجهاد الإسلامي، وهو "هاني العبد"، الأمر الذي ترك انطباعاً سيئاً لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ذلك ما أرادته "أجهزة الأمن الإسرائيلية" لخلق حرب أهلية في غزة، في حين كان عرفات يريد ضم المعارضة، وبالأخص حماس، إلى حكومة وحدة وطنية. ومع ذلك، في 18 (نوفمبر) 1994 جرى اشتباك بين الشرطة وحركة حماس، ذهب ضحيتها 16 قتيلاً وأكثر من 100 جريح، واتهمت حماس الشرطة الفلسطينية ومن ورائها، في حين أن عرفات اتهم "عملاء إسرائيل" بافتعالها. وهكذا دخلت حماس في صراع مع عرفات والسلطة الوطنية. وفي الجانب الآخر، صادق اسحق رابين على أضخم مصادرة للأرض في القدس حتى ذلك الحين، منها إنشاء 2500 مسكن للإسرائيليين، الأمر الذي استنكره عرفات بشدة داعياً المجتمع الدولي للتدخل، ساندته حينها حركة "السلام الآن" الإسرائيلية. وفي الجانب الإنساني، وبينما عرفات يفاوض ويساوم، رزق في 24 (يوليو) 1995 بابنه، سمّاها "زهوة" نسبة لوالدته، وعندما ذهب إلى باريس لرؤيتها، اجتمع مع الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" قبل أن يحتضنها. سافر عرفات إلى واشنطن في 28 (سبتمبر) 1995، وقع مع رابين اتفاقية المرحلة الثانية من الحكم الذاتي الفلسطيني (أوسلو 2)، بحضور الرئيس بيل كلينتون والملك حسين، بملحقاتها العشرة: الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين، وتوسيع نطاق الحكم الذاتي، وتنص على انتخاب مجلس فلسطيني من 88 عضواً، يتمتع بسلطات تشريعية ويمارس سلطة تنفيذية محدودة. تلتزم م.ت.ف بإلغاء بنود الميثاق الوطني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود. ويتعين أن تبدأ مباحثات الحل النهائي للنزاع في موعد أقصاه (مايو) 1996، بهدف توقيع اتفاقية قبل شهر (اكتوبر) 1999، وقد صادق الكنيست على الاتفاقية (61 مقابل 59)، والحكومة الفلسطينية بأغلبية 15 وزيراً، وامتناع 2 عن التصويت. وبعد التوقيع، بدأت المظاهر العدائية التي يقودها اليمين المتطرف الإسرائيلي ضد رابين، ووصفه "بالمجرم"، و"خادم عرفات"، وغيرها من الأوصاف الموجعة. ومقابل كل ذلك أعلن رابين عبر التلفزيون الإسرائيلي: "أصبح عرفات شريكنا في عملية المصالحة بيننا وبين الفلسطينيين، لقد وضعت م.ت.ف حداً للهجمات الإرهابية، إن من يقوم بالعمليات هي حماس والجهاد الإسلامي". وخرجت مظاهرة كبيرة في تل أبيب مؤيدة لرابين ومبادرة السلام، شارك فيها 150,000 شخص، كرر فيه ما قاله للتلفزيون الإسرائيلي، في جو احتفالي، راح الجمهور ينشد مع رابين، أغنية السلام "الشهيرة". وفي نهاية الاحتفال، وبينما كان متجهاً نحو سيارته، اخترقت ظهر رابين ثلاث رصاصات، اثنتان منها كانت قاتلة. كانت صدمة بالغة التأثير على عرفات، الذي راح يردد: "مستحيل، لا أستطيع التصديق، أية كارثة هذه". وعلى الفور أصدر أمراً بمنع المظاهرات وإطلاق النار التي تنادي بها حماس في غزة، وقد أدرك عرفات أن هذه العملية تمثل عملية اغتيال لمجهودات السلام، الفلسطينية الاسرائيلية. لم يستطع عرفات أن يشارك في تشييع "شريكه" في عملية "مصالحة الشجعان" (لأسباب أمنية)، التي شارك فيها عدد كبير من رؤساء دول العالم، من بينهم الرئيس حسني مبارك والملك حسين. وبعد ستة أيام اصطحب كلاً من أبي مازن وأبي علاء لتقديم التعزية لأسرة رابين، التي قالت عنها "ليئا رابين" في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية "كان زوجي، وأنا كذلك، نحترم ونقدر ياسر عرفات كثيراً، يتصف زوجي وعرفات كلاهما بالصفات القيادية ذاتها. ليس من شيمتهما الغش. اكتشفت أن ياسر عرفات رجل يتحلى بالعديد من صفات الجدية والمسؤولية. إنني أكن له التقدير، تأثرت كثيراً بما أبداه من ودّ انساني حار تجاهي. إن حزن عرفات بعد وفاة اسحق كان عميقاً وصادقاً". * عرفات رئيساً للسلطة الوطنية خلف شمعون بيريس في رئاسة الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين، وفي لقائهما الأول، يوم 7 (ديسمبر) 1995 اتخذ قراراً بمواصلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة، وبعد اسبوعين انسحبت القوات الإسرائلية من جنين، ونابلس، وبيت لحم، ثم من رام الله. وبعدها بأيام انسحبت من قلقيلية وطولكرم، وفي كل هذه المدن استقبل عرفات بحماسة شديدة وسط هياج الجماهير وهتافاتهم، وفي الوقت نفسه تم إطلاق سراح بضعة آلاف من المعتقلين. انسحب الجيش الإسرائيلي من المخيمات والقرى والبلدات في الضفة الغربية. بالمقابل اتخذت خطوات جديدة لتعزيز الحكم الذاتي: تم تنظيم انتخابات لمجلس الرئاسة والحكم الذاتي في 20 (يناير) انتخب ياسر عرفات رئيساً للسطلة الفلسطينية بحصوله على 88,1٪ من أصوات المشاركين في الانتخابات. وحصلت سميحة خليل على 8,3٪ من الأصوات. وحازت فتح وانصارهم المستلقون على 65 مقعداً في انتخابات المجلس التشريعي، الذي قاطعته حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحققت الانتخابات التشريعية نجاحاً مهماً للسلطة الفلسطينية كاختبار حقيقي للديمقراطية الفلسطينية. بعد ثلاثة أسابيع أدلى عرفات في المجلس التشريعي بغزة اليمين الدستورية، على المصحف، كأول رئيس للسلطة الفلسطينية، فانهالت عليه برقيات التهنئة، ومن بينها برقية "بيريس" الذي ذكره بالتعهدات التي قطعها بخصوص الميثاق الوطني الفلسطيني. وفي 7 (مارس) 1996، انعقد في غزة الجلسة الأولى للمجلس التشريعي، فدعا عرفات الأعضاء إلى التصويت لصالح "إلغاء بنود الميثاق التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين اسرائيل و م.ت.ف" في كلمة طويلة، مؤكداً على تحقيق انجازين: دعم دولي إضافي، وربما إطلاق بعض المعتقلين الفلسطينيين، ما دفعهم إلى التوقيع. وفي 24 (أبريل) 1996، صوت المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة في دورته الواحدة والعشرين الطارئة، وبالأغلبية الساحقة (504 مؤيدين، 54 معارضاً، 14 ممتنعاً عن التصويت)، على حذف البنود نفسها. رحّب حزب العمال الإسرائيلي بهذه البادرة التي تفي بوعود عرفات لرابين بقوله "إنه تعديل ذو مغزى تاريخي، وهو أكبر تحوّل أيدولوجي في هذا العصر"، فهل يفيد ذلك شمعون بيريس في الانتخابات القادمة؟. بعد مقتل إسحق رابين ارتكب "شمعون بيريس" خطيئتين قاتلين: الأولى، اغتيال "يحي عياش" العضو المعروف في حركة حماس، ومهندس المتفجرات لديها، وقيام حماس بالرد على ذلك بأربع عمليات داخل اسرائيل. أما الثانية فكانت سقوط قذيفة في مقر القوات الدولية في "قانا" اودت بحياة 108 شهداء غالبيتهم من النساء والأطفال، وقد حمّل الرأي العام الاسرائيلي بيرس المسؤولية بهاتين الخطيئتين واللتين جاءتا بزعيم الليكود "بنيامين نيتنياهو" على رأس الحكومة الإسرائيلية.
زمن التراجعات مع مجيء "بنيامين نيتنياهو" إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، شهدت العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحوّلاً تلاشى خلاله أي أمل بالتعاون بين الطرفين، فياسر عرفات يعتبر "ارهابياً" والسلطة الفلسطينية تعتبر خطراً حقيقياً على إسرائيل، جاء ذلك في برنامج نيتنياهو الانتخابي، وها هو ينفذه بعد انتخابه. رفض مقابلة عرفات إلاّ عبر متطرفين آخرين في حكومته، لا يقدمون ولا يأخرون، لدرجة أنه وجه طلب من عرفات صيف 1996، تقديم طلب خاص لمروحيته في كل مرة تقلع فيها، وألغى قرار تجميد بناء المستوطنات المعمول به منذ عهد حكومة العمل. وبضغط من الإدارة الأميركية ورئيس دولة إسرائيل، اضطر نيتنياهو للقاء عرفات في معبر "أيريز" لم يقدم لعرفات سوى السماح ل 5000 عامل فلسطيني بالعمل في إسرائيل لإنقاذ تأزم السلطة الاقتصادي، ورغم ذلك، فقد أفضى لأحد الصحافيين قائلاً: "هذا الاتصال مع عرفات كان أصعب لحظات حياتي"، أما شارون فوصف المصافحة قائلاً: "بعد مصافحة نيتنياهو لعرفات، انتهى الليكود". تصاعد الغضب، وخيم اليأس في المناطق الفلسطينية، ما يهدد بالانفجار في أية لحظة، ذلك ما أراده نيتنياهو الذي وافق على فتح نفق تحت الأرض يصل بين حرم المسجد الأقصى وطريق الآلام في الحي العربي، حيث اعتبره الفلسطينيون انتهاك لقدسية الحرم الشريف، واندلعت مظاهرات غاضبة تعاملت معها الشرطة والجيش بعنف، سقط خلالها 80 شهيداً وأكثر من 1300 جريح فلسطيني، إلى جانب 15 قتيلاً ونحو 50 جريحاً إسرائيلياً.