على متن السفينة الحربية، أعلن الرئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية السابق "جورج دبليو بوش" عبارته الشهيرة "المهمة انجزت " ، حينها توقع بعض المراقبين أن مسار الدمقرطة و الحرية قد بدأ فعلا في العراق، و تداولت الوسائل الإعلامية العالمية صورة الجندي الأمريكي يضع علم بلاده على تمثال الحاكم صدام حسين، تعبيرا عن حرب تحرير بغداد و نهاية مرحلة الدولة الشمولية و الديكتاتورية البعثية وبداية مسار التحرر و الحرية و الديمقراطية و الرفاهية الاقتصادية. في مقابل ذلك، تسترت قنوات الإعلامية على عمليات النهب و السرقة و الاعتداءات و تكتمت عن تصفية الحسابات الدامية و انتشار الفوضى، ورافق الشعور بالارتياح من انهيار النظام البعثي مشاعر الخوف من مستقبل العراق نحو الأكثر سوداوية و ضبابية، فمن كان يتوقع يوما ما أن تفكك الدولة العراقية ككيان مركزي موحد و يفسح المجال للجماعات الدينية الطائفية و المكونات العرقية تقود المسرح السياسي ، في هذه القراءة نحاول فهم السياقات التاريخية التي عملت على صعود المرجعيات الدينية التقليدية . تاريخيا ، عرفت الساحة السياسية في العراق خلال الحرب العالمية الاولى و الثانية حركية فكرية و قومية و نهضوية، تفاعلت مع حركية المرحلة الزمنية خلالها و انعكس ذلك التفاعل على الاسهامات الفكرية و الثقافية و الادبية و ضمت حزب الاستقلال و حزب الوطني الديمقراطي و حزب البعث و الحزب الشيوعي و غيرها من التشكيلات الحزبية التي كان لها الفضل في ارتقاء النضج السياسي في الواقع العراقي إلى غاية الحسم في وصول حزب البعث لرئاسة البلاد سنة 1968. –الحرب العراقية-الايرانية رغم تحمل قادة البلدين مسؤولية الحرب التي امتدت طوال ثمان سنوات 1980-1988 و التي تركت آثار نفسية على الشعب العراقي إلا أن النفوذ الامريكي و الغربي في المنطقة، أشعل فتيل الحرب بصورة أعمق من خلال الدعم اللوجستيكي و العسكري الذي كان يقدمه الغرب للطرفيين العراقي و الإيراني مهما كانت نتيجة الحرب الطاحنة بينهما ، تركت الحرب انعكاسات على المجتمع العراقي الذي تورط في حرب لم تكن تعنيه و لم تحقق مصلحة تعود عليه ايجابا . –الحصار الاقتصادي و التواطؤ الامريكي رجح الامريكان و الغرب ان فترة الحصار على العراق الممتدة من 1991 إلى غاية الاجتياح سنة 2003 ستزيد من الاحتقان الداخلي و تعمل على تفكيك النظام البعثي سواء من الداخل عبر انقلاب على صدام حسين أو حركة تمرد شعبية تقودها كيانات دينية و عرقية و كانت المراهنة على الحركة الشيعية في الجنوب و الحركة الكردية في الشمال ، لكن ثمار الحصار الاقتصادي أثمرت على غير ما توقعه الحلفاء، بل عرف حالة من الكراهية تجاه قوات التحالف و ترك فراغا سياسيا على الساحة العراقية. في مارس 1991، سمحت القوات الأنجلو –امريكية للجيش العراقي بسحق التمرد الشيعي الجنوبي و بقاءه على الحياد و كانت قوات التحالف شاهدة على مجازر انسانية بشعة اقترفتها قوات صدام حسين باستخدام مختلف انواع الاسلحة في ابادة التمرد الجنوبي وباستعمال الطائرات الهليكوبتر أيضا. وكان بمقدور قوات التحالف التصدي ومنع تلك التجاوزات ، تلك الحيادية او التواطئ، ترك انطباع لدى سكان الناحية الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية أن القوات الأمريكية، لم و لن تكون قوات تحرير للشعب العراقي بل ساد الانطباع أن الأطماع على الحقول البترولية في الكويت كانت سببا في حرب الخليج الاولى و الثانية و ليس الجوانب الانسانية، هذا الشعور ، أدى إلى مزيد من التوتر و الكراهية تجاه الأمريكان و ازدياد الشعور بالانتماء الديني و الالتفاف حول المرجعيات الدينية . كما شكل الحصار الاقتصادي الذي شنه الأمريكان و بريطانيا على العراق طيلة 12 سنة مأساة انسانية من الصعب على الشعب العراقي نسيانها، إذ اسفر الحصار عن موت أكثر من مليون و ثمانمئة شخص، بمعدل تسعون ألف فرد يوميا أغلبهم من الأطفال و النساء و كبار السن، و انتشرت الامراض و الأوبئة بسبب سوء التغذية الصحية . فكان الحصار نقمة على الشعب العراقي و ليس على النظام البعثي الذي استقوى على شعبه خلال تلك المرحلة رغم انهيار الآلة العسكرية و الأمنية . و في ظل ضعف الدولة المركزية، التف الشعب العراقي على المرجعيات الدينية و المذهبية في محاولة ايجاد اطر و هياكل لتعبير عن الاستياء الشعبي و ملأت التيارات السلفية الشيعية الفراغ الذي تركه إفلاس المنابر السنية و الحركات التقدمية و الوطنية المتواطئة مع بلدان إقليمية ، مما أدى إلى التدخل الايراني في المنطقة عبر ربط شبكات علاقات مع التيارات و الشخصيات الشيعية منذ سنة 1991.
بالعودة للنتائج الأخيرة للانتخابات النيابية في العراق، التي أسفرت عن صعود تيار الرجل الديني الشيعي مقتدى الصدر عبر تشكيلته السياسية "سائرون" ، يمكن القول أن مقتدى يعد شخصية غامضة، يصنع مسافات مع طهران و يرى أن المرجعية الشيعية العراقية أقوى من المرجعية الشيعية الايرانية سواء من الناحية التاريخية و الشرعية الدينية. و يربط الصدر بين العامل الديني و المكون العربي، هذا ما يجعله يختلف عن باقي رجال الدين الشيعة الاخرين ، إضافة إلى ذلك هناك البعد السياسي أيضا، فالرجل حريص على إقامة تحالفات إقليمية، فقد زار الرياض و أبو ظبي و له علاقات طيبة مع دول الجوار. أما داخليا، أقام الصدر تحالفا مع التيار الشيوعي الذي استفاد من عدد المقاعد البرلمانية، الامر الذي ترك انطباع حسن لدى المكون السني و باقي المكونات ، كما ان التيار الصدري يمتلك شرعية مقاومة الاحتلال الامريكي و رفضه الخضوع إليه و إملاءات نورالدين المالكي حليف الولاياتالمتحدةالامريكية. لكن من صعب التكهن على الدور المحوري الذي سيؤديه مقتدى الصدر في هذه المرحلة التي تشهد تدخلات إقليمية في الواقع العراقي، فالعراق بالحاجة الى وجود شخصية كرازماتيه و قوية ذات بعد وطني علماني قادرة على تحقيق انتقال سلمي إلى مرحلة بناء وطني يجمع كافة المكونات المجتمعية و من المستبعد أن يتكفل بهذه المسؤولية رجل يحمل عباءة سوداء. وكخلاصة لما سبق، يمكن التأكيد على أن العوامل النفسية و الأيديولوجية هي الكفيلة بتحديد المسار التاريخي و هي العوامل نفسها التي أثرت في خيارات الجماهير العراقية في هذه المرحلة .