سي حاج محند م. طيب ثم ظهرت إشاعة سفرية دراسية إلى الخارج. وللوصول إلى الحقيقة سألنا مدير المركز، وكان يقدم لنا دروسا في التشريع المدرسي، فنفى الإشاعة نفيا قاطعا...قصد أحدنا الإدارة لغرض له فحدثهم بالفرنسية، وحسبوه مفرنسا، سلموا له وثيقة وأوصوه ألا يخبر "المعربين"، وأفادنا بها فإذا هي موجهة للإدارة لتسهيل الحصول على جواز السفر للمعني؛ لأنه سيذهب في سفرية رسمية...انكشفت الخديعة، فلم يبق إلا المناورة الماكرة، فقيل لنا: فكرنا في توجيهكم إلى الشرق الأوسط، ولكن حرب الاستنزاف مع إسرائيل تعرض حياتكم للخطر، وتوجيهكم إلى فرنسا غير مجد لجهل بعضكم الفرنسية، قلت أنا: «ما دام البرنامج واحدا والشهادة واحدة يجب أن يكون التكوين واحدا. ابعثونا حيث شئتم إلا التمييز فلا نقبله».. ومع ذلك سافر المفرنسون إلى فرنسا تحت إشراف مدير المركز الذي كذب علينا، وتركونا منبوذين مخذولين ضائعين، نجتر عبارات التذمر والاستياء، ولكن في نطاق ضيق لا يتجاوز مجموعتنا… اتفقنا على مراسلة الوزارة وعيّنا من يعد الرسالة ولكنها أبطأت... وذات مساء عاتبت المكلفين بإعداد الرسالة لبطئهم، ولكني فوجئت بحكمهم بعدم الجدوى، لعلم الإدارة بما فعلت بنا...عندئذ انفعلت وأسمعتهم عبارات لاذعة بعد أن تركتهم، وطلبوا مني بكل إلحاح أن أعود إليهم فرفضت، وكنت أتصور أنهم سيجدون حلا منطقيا لكونهم لم ينفعلوا مثلي. وفي الغد كنت أسترق السمع كلما رأيت اثنين منهم يتناجيان، لعلهما كانا يتحدثان في قضيتنا، ولكنهم ما اهتموا ولا خطرت لهم ببال. عندئذ قلت لنفسي: عليك بحمل هذه الأحمال الثقيلة التي ابتليت بها ولا مفر لك من ذلك.. وبعد نهاية دروس الصباح طلبت من الجميع البقاء ففعلوا، قلت لهم: "يجب الآن البت في رسالتنا". قال أحدهم، وكان يتجسس علينا للمدير: "اكتبها وأحضرها غدا لنوقعها"، قلت له: "لو كان الأمر يخصني وحدي لما انتظرت أمثالكم ولكنها مسألة الجميع، ويجب أن يشارك الجميع"، قال: "اكتب أنت واحدة وأنا واحدة وفي الغد نختار واحدة منهما"، قلت له: "هكذا مقبول". خرجنا وقال لي زميل صديق: "أعترف لك بالديبلوماسية؛ لأنك ورطت صاحبنا".. وفي الغد عرضت رسالتي وتعمدت أن تكون مختصرة غامضة حتى لا تذهب. عرض هو رسالته ولما انتهى قلت وأنا أتصنع العجز والقصور: "إن لغتنا ما تزال لغة الأدب الجاهلي، أما أنت فلغتك إدارية ورسالتك أنسب"، انتفخ غرورا حتى كاد ينفجر، وقد تغاضيت عمدا عن عبارات غير مناسبة، وهو ما أثار غضب المدير يوم اللقاء. وجهنا الرسالة إلى الوزير ونسخة إلى مدير التعليم ونسخة إلى المفتش العام، مع نسخة منها إلى مدير المركز، ولما عاد من سفريته وجد الرسالة في انتظاره ترحب به. بعث إلينا استدعاءات شخصية وبالعربية، وكان من قبل يراسل المفرنسين ويطلب منهم في ذيل الصفحة تبليغنا بما يريد.. وفي يوم اللقاء بمكتبه غادر كرسيه وجلس معنا في حلقة، بدأ ببعض المجاملات ولكنه استمر حتى أقنع الزملاء بخطئنا بكتابة الرسالة, فأخذوا يعتذرون له، حينذاك رفعت يدي، وكنت قد قررت أن ألوذ بالصمت ما دامت قضيتنا بلغت هذا الحد، فقدمت له أربعة أسئلة وقلت: "قلت سيدي المدير: حاولنا إلحاقكم عن طريق الملحق الثقافي الفرنسي وهو صديقي ولم نوفق، وأعدنا الكرة مع السفير فأجابنا بأن الميزانية تكفي هذا العدد فقط.. وسؤالي الأول: لماذا كانت المحاولة لإلحاقنا إلحاقا، ولم ندرج لأول مرة في القضية؟. وسؤالي الثاني: لماذا كانت الميزانية تكفي هؤلاء فقط بدون زيادة ولا نقصان؟.. وقلتَ أيضا: المركز لا يتحمل مسؤولية عدم سفركم؛ لأن لجنة وزارية هي التي نظمت السفرة، قلت له: "اسمح لي أن أخالفكم الرأي في هذا.. قال: "كيف ذلك"..؟ قلت: "هل من المنطق أن تأتي لجنة خارجية لتأخذ بعض المتكونين دون بعض، والمركز لا علم ولا رأي له في المسألة؟.. أخيرا: صارحنا سيدي المدير هل نحن مظلومون"؟ قال: "نعم"، قلت: "إذا دعونا نبكي على الأقل، وهذه الرسالة بكاؤنا. أتضربوننا وتمنعوننا حتى من البكاء"؟ … تهرب من الجواب وراح يثرثر بكلام لا علاقة له بأسئلتي، وراجعته أربع مرات قائلا: "مازالت أسئلتي بغير جواب سيدي المدير"، ولكنه ظل يتهرب لعجزه عن الجواب.. وختم كلامه بقوله: "أعاهدكم أن المسألة لن تتكرر"… وبعد خروجنا قال لي أحد الزملاء: "لقد خنقته خنقا"، فأجبته بانفعال: "ألا تخجلون؟ أين مروءتكم؟، تطلبون العفو بعد أن سلحوا علينا؟، انجحوا إن شئتم وعلى حساب كرامتكم، أما أنا فمستعد للتضحية لا بالنجاح فقط بل بالوظيفة أيضا، ويداي لا تزالان خشنتين يمكنهما القبض على الفأس للعيش الكريم"... وبعد عشرة أيام نُظمت لنا سفرية إلى تونس، وعند اللقاء للسفر قال أحد الأساتذة لزملائي ممازحا: "هذه سفرية سي حاج لا حق لكم فيها لِم جئتم إليها". وفي ماي 1970 انعقد الملتقى بالجزائر العاصمة، تحت إشراف هذا المدير نفسه، ضم 96 فردا بين مفتش عام ومفتش أكاديمية ومفتش ابتدائي، وكنت أحْدثهم عهدا في الوظيفة وأصغرهم سنا، وكانت الأشغال تجري بالفرنسية وحدها. وكنت أنتظر أن يتدخل الآخرون، خاصة المفتشين المسؤولين عني مباشرة، وهم أربعة فلا داعي لذكر أسمائهم… ولما لم يفعلوا ألقيت سؤالا بالعربية لكسر الهيمنة الفرنسية، فأُجبت بأن سؤالي موضوع المحاضرة غدا، استمرت الحالة كما هي، وفي الأخير انفجرت بالاحتجاج على دعوتنا لاجتماع نصف الحاضرين فيه معربون، والعربية تم تجاهلها تماما. ومما قلته وأنا في قمة الانفعال: "لو أن أحدا ممن هم وراء البحر، أي الذين استعمرونا حضر هذا اللقاء، هل يشعر أنه خارج فرنسا؟.. أجيبوا.. أجيبوا..". أجابت القاعة: "لا.لا.لا."، تابعت بانفعال أشد لأني تشجعت بتجاوب القاعة معي: "أما نحن فغرباء في ديارنا، غرباء، غرباء، وذنبنا الوحيد أننا نحسن اللغة الوطنية".. أجاب المدير المشرف على الملتقى: "….حافظنا على التوازن، فأجبنا باللغة التي ألقي بها السؤال، ولكنكم أنتم المعربين لم تحفظوا التوازن.. "، قاطعته ورفعت صوتي صارخا موجها كلامي للقاعة: "أتسمعون؟؟، إنه يقول لكم: أنتم وزن خفيف لا تأثير لكم"… قلتها بالفرنسية… ساد الهرج والمرج في القاعة، ولاذ بعضهم بالفرار. وبعد الخروج التف حولي بعض الحضور وهم يعلقون على موقفي… أو تهوري. وقال لي مفتش ابتدائي، وكان هذا المفتش معروفا بمواقفه المتخاذلة، وخنوعه لكل معاملة مهينة…: "إنك ما زلت صغيرا وكنت مثلك ساخنا، ولكنك ستبرد".. فقلت له: "بادر بصب ثلجك علي حتى تغمرني ببرودتك القاتلة فأصبح مثلك". ثم وجهت كلامي للجميع قائلا: "هذه وصيتي: إذا مت فاكتبوها على شاهد قبري، وهي: «هنا ينام سي حاج في هدوء واطمئنان؛ لأنه أدى رسالته بكشف الأعداء الحقيقيين للغة العربية المسكينة اليتيمة في وسط أهلها».. وفي الغد أضحت كل المحاضرات تقدم وتوزع باللغتين معا. وبعد يوم أو يومين جاء المنشور إلى مختلف الإدارات من الزعيم الفذ المرحوم الرئيس بومدين يهدد فيه كل الذين تجاهلوا قراراته في التعريب، وهذا المنشور نشرته صحيفة المجاهد الأسبوعية في الصفحة ما قبل الأخيرة بلون أبيض على أرضية سوداء. (رويت الحادثة باختصار). عهد المكايد والعراقيل وفي سبتمبر 1970 عينت مفتشا لدائرة (الأخضرية بويرة) التي لم تحظ قبلي بمفتش خاص بها، بل كانت تلحق بدائرة أخرى، مما جعلها تائهة في غياهب التجاهل والإهمال… عينت إليها كعقاب لي بعد أن تشاجرت مع مفتش الأكاديمية بسبب نتائج امتحان الأقسام المعربة، وكان قد وعدني بالبقاء في تيزي وزو. رفضت الالتحاق بحجة أن هذا انتقام للشجار الذي وقع بيني وبينه، وشكاني إلى أعلى مسؤول بالحزب والذي أصبح وزيرا فيما بعد، فأتاني إلى المنزل وقال: "من أجلنا ينبغي أن تلتحق، زيادة على أنك ستتدرب هناك كما تدرب معاوية بمصر".. التحقت بالدائرة، وأحاطوني بكل عوامل الفشل، حيث كلفت وحدي بالتسيير الإداري لكل الدائرة، في حين يتقاسم تسيير كل دائرة معرب ومفرنس، أنا جديد في المهنة، وليس معي ولو مستشار تربوي واحد، بينما بعض الدوائر بها حتى أربعة مستشارين، وكل مراسلاتي بالعربية، وكل ما يأتيني من الإدارة بالفرنسية، ومسافتي في تعويض التنقلات حددت بثلاثة آلاف كم، وأنا قطعت عشرين ألف كم.. الدائرة مهملة وصعبة، وهي تشكو دائما من عجز فادح من المعلمين، والإدارة المناوئة لا تعيّن المعلمين إليها إلا إذا كانوا فائضين عن الدوائر الأخرى، أو المعاقبين بالنقل الإجباري، فمن ذلك مثلا: أن معلما عرض أثناء الاجتماع على عدة مفتشين ليعين عند أحدهم، ولما لم يجدوا له مكانا، طلبته واقترحت له مكانا، ولكن المسؤول على التعيينات رفض وطلب أن ينتدب للتكوين.. حينذاك ثرت وهممت بالخروج من الاجتماع، مما اضطر مفتش الأكاديمية للتدخل، فأمر بتعيينه بدائرتي… وكثيرا ما أقطع مسافات مشيا على الأقدام، لانعدام طرق السيارة إلى المدارس، ومع ذلك فقد توصلت بها بعد جهد شاق، وتعب مضن وحتى العراقيل إلى أن تصبح هي الأولى بالولاية في الامتحان، حيث القبول 40% على مستوى الولاية، ونتيجة دائرتي 49%، حينئذ قلت للمناوئين المعرقلين: "ألم أقل لكم: الجواب ما ترون لا ما تسمعون"..؟؟، مما جعل المفتش العام يقدم لي تهنئة بعد زيارة تفتيشية. كما أن مفتش الأكاديمية كان لا يتحرج أن يعلن مرارا وتكرارا أمام الملأ في الاجتماعات بأنها الدائرة الوحيدة الخالية من المشاكل… وقلت له يوما ونحن في الاجتماع: "دائرتي بها مشاكل ربما أكثر من غيرها لظروف لا تجهلونها، ولكن فهمي لمهمتي لا أدري إن أنا على صواب أن أحل كل المشاكل بالدائرة، ولا يصل إليكم سوى الخارجة عن صلاحياتي"، أجاب: "بارك الله فيك هذه هي المسؤولية الصحيحة".. الحلقة العاشرة يتبع