ذهبت حالا إلى رئيس البلدية فأرسل معي حارس الحقول، كما أرسلت كوميسارية الشرطة صحبتي شرطيين، غير اننا وجدنا ”مسيو بودوشريك” رئيس البلدية السابق يقيم في المنزل، فأمره الشرطي أن يأتيه بمفتاح المنزل فرفض بحجة أن صاحب المنزل سيعود، فأجبته: لقد مضى أكثر من شهر على الأجل المحدد لقدومه، ولو كان سيعود حقا لما ختمته الدوائر المسؤولة بطابعها، غير أنه بقي مصرا على رفضه، يجب عليك، قلت له، تسليم المفتاح الآن وإلا فستذهب كما ذهب شريكك، إننا نعاملك باحترام وأدب، ولن نعاملك كما كنتم وجيشكم تعاملون أهلنا ونساءنا ببقر بطونهن وضرب المرأة الحامل بجنينها على وجهها، وتدمير منازلنا، وإشعال النيران في حقولنا ومتاجرنا، إلى ما هنالك من الأعمال البربرية المنكرة التي كنت ترتكبها وأشباهك، ولو وكل إلي الامر لما تركتك تعيش إلى هذا اليوم في بلادنا. لقد أصيب بالدهشة عند سماعه هذا القول، وأخذ يرتعد كالنخلة في يوم عاصف وأتى حالا بالمفتاح، فطلب منه الشرطي البقاء للنظر في تقويم الأثاث الموجودة في المنزل، فأجاب بالإيجاب. دخلنا المنزل وبعد تقويم ما فيه من متاع وأثاث والتوقيع قدمت له نسخة منه، ثم ذهبوا لحال سبيلهم بعد تسليمي المفتاح رسميا، وأقمت في هذا المنزل الجديد مع عائلتي التي أتيت بها من الجزائر، ما أثار حفيظة الرجعيين والبرجوازيين في باتنة وقلقهم الذين أبوا السكوت عن هذه الإهانة التي لحقت بهم، بإسكان شيوعي بينهم في منزل سيده القديم، الذي كانوا يمالقونه ويعتزون به، وبالعكس فقد فرح الفلاحون والعاملون فرحا شديدا بهذا العمل واعتبروه نصرا مبينا على المستعمرين والرجعية، وباركوا لي هذا المسكن الجديد. وقعت في باتنة آنذاك محاولة اختلاس ستين مليون فرنك كان أبطالها ثلاثة من أعضاء حزب جبهة التحرير الوطني. ذههب هؤلاء الثلاثة الى أمين المال (الخزناجي) وطلبوا منه دفع القيمة المذكورة أعلاه بحجة شراء مواد غذائية وتوزيعها على الشعب، فأجابهم: ليس بإمكاني دفع هذا المبلغ إلا اذا اتيتوني بفاتورات من كبار التجار الذين ستشترون من عندهم هذه المواد، فأتوه بالفاتورات المطلوبة من ستة من التجار، ثم أتوا لاستلام المبلغ المرقوم بأجابهم لقد أرسل المبلغ إلى التجار، وما عليكم الا أن تذهبوا اليهم وأن تستلموا السلع الضرورية، وعندما ذهبوا إلى التجار الستة ولم يجدوا لديهم السلع المطلوبة. أطلعني الخزناجي بهذا الحادث، فأشرت عليه بإعلام الادارة المركزية في الجزائر في الحال ففعل، فأتى فريق من الشرطة السرية من الجزائر واعتقلوا التجار الستة والمسؤولين الحزبيين الذين لهم ضلع في هذا الاختلاس، بما فيهم الوالي، وبعد خمسة عشر يوما أطلق سراحهم وعادوا إلى باتنة. لم يكن مني أمام إطلاق سراحهم وعودتهم الى باتنة إلا ترك البلاد حرصا من مكائدهم، والسفر للجزائر، وإعلام عمار اوزقان بما حدث وطلبت منه أن لا يعول علي منذ اليوم. تركت الجزائر متوجها إلى جنيف وصحبتي 350 ألف فرنك قدمها لي ابني بعدما باع المنزل الذي كنت أقيم فيه في الجزائر، ومنها إلى تركيا ثم الى سوريا ولبنان، ذهبت فيما بعد للسفارة السعودية في بيروت بطلب الحج فرفضت السفارة طلبي.. فعدت أدراجي للجزائر، وجدت جماعة المختلسين مقدمين تقريرا في غيابي إلى والي باتنة الجديد، اتهموني فيه ببيع منزلي الجديد وما فيه من متاع، وعلى الاثر أرسل الوالي في طلب زوجتي يسألها عن مكان وجودي فأجابته أنه في الجزائر عند أبنائه، ثم سألها عن المنزل وما فيه من متاع فأجابته ايضا أن المنزل في مكانه والمتاع كذلك، وما زلت أقيم فيه مع اولادي، فحذرها من بيعه، فقالت له: كيف نبيع شيئا لا نملكه، ومع ذلك، أجابها سأرسل الشرطة إلى مراقبة المنزل والمتاع. التقيت بالوالي صدفة بعد قدومي الى باتنة، فاستدعاني إلى مكتبه فلم اذهب إليه، فأرسل استدعاء رسميا، فذهبت إليه في الموعد المحدد، بادرني الوالي عند دخولي مكتبه بسؤاله: اين كنت؟ كنت اتفسح، اجبته، ثم أردف سائلا لماذا لم تحضر عندما دعوتك شفاهيا؟ لماذا آتيك دون استدعاء رسمي؟ وعلى كل حال ها أنا أمامك، تملكه الغضب لهذا الجواب، فضرب بقبضة يده على المنضدة بعنف صارخا لماذا تبيع ملكا ومتاعا ليس لك؟ فأجبته: الرجاء أن لا تحمق وتكلمني بأدب واحترام كما أكلمك. إنني أحترمك يا سعادة الوالي، ولكنك أنت الذي لم يحترمني بأسئلتك واجوبتك الاستفزازية، الفظة، وبضرباتك المتتابعة بعنف فوق المنصدة. التفت الوالي الى كاتبه آمرا: اطلب الشرطة والكوميسار ليأتوا في الحين، إنني لست مجرما ولا بسارق لتهددني بشرطتك، ولم أتعد على القانون. وعندما دخل رجال الشرطة والكوميسار مكتبه، قال لهم أنه احتقرني وشتمني انني لم اشتم إنسانا قط في حياتي قلت لهم، فكيف بالمسيو الوالي وها هو كاتبه شاهد على ذلك، وإنما هو الذي اعتدى علي بأسئلته الاستفزازية وتعنتره علي، وكل ما طلبته منه هو الوقوف على حد الأدب في مخاطبتي، وهذا هو سبب هياجه ودعوته إياكم. التفت الوالي الى رجال الشرطة متسلائلا: هل ذهبتم الى منزله؟ نعم، أجاب رجال الشرطة، وهل وجدتم المتاع المقوم بتمامه؟ نعم لقد وجدنا كل شيء على حاله، وهل لم يفقد ولم يكسر شيء؟ كلا لم يفقد ولم يكسر شيء. إنك اتهمتني يا سعادة الوالي دون ترو أو تحقيق ببيع المنزل والمتاع الذي في حوزتي، واستدعيت زوجتي هنا موجها لها نفس التهمة، فأجاب: آه لو لم تكن كبير السن لقضيتها معك، وماذا تنتظر، أجبته، إنك السيد الوالي وأنا العبد الفقير، إنسان بسيط، ولكن لو جئت في العهد الفرنسي لقضيتها معك حتى لا تبقى يوما واحدا في باتنة، لكنك جئت في عهد حكومتنا التي أجلها وأحترمها، واخشى أن أخلف لها مشاكل جديدة فوق مشاكلها كما تفعل أنت وأشباهك.” تملك الوالي الغضب لجوابي هذا وصرخ في وجهي:”اخرج من هنا، اسمح لي أيها السيد، اجبته، أنت الذي دعوتني للقدوم اليك وهذه هي دعوتك، لماذا التمرد من جانبك، فتقدم مني أحد رجال الشرطة والكوميسار وسارا معي الى خارج المكتب، ولما ابتعدنا عن دار الولاية قال لي احدهم: أتعاند رجلا شرسا كهذا؟ إنه شرس عليكم - أجبته - لا نكم تخشونه حرصا على مناصبكم، أما انا فليس من اخشاه إلا الله، انكم تعرفونني منذ عهد قديم، لا أعتدي على أحد ولا أترك أحدا يتعدى علي واخيرا ودعوني بقولهم: بارك اللّه فيك لازلت لديك الجرأة القديمة التي عهدناها فيك سالفا.. مررت بإحدى المقاهي وكان مقر الأعيان والموظفين والكتاب، وإذا بانسان يقابلني بالترحاب، أهلا بصديقي وقرة عيني العزيز، فأجبته إنني لست بصديقك، بل أنا سارق، ألست أنا الذي أذاع بين الناس خبر سرقتي 14 مليون فرنك؟ انكم تسرقون وتتهمون الابرياء لإخفاء سرقاتكم، ها أنتم كلكم هنا، أروني من منكم قدم لي هذا المبلغ ومن أي بنك استلمته؟ فأجاب كاتب الوالي، اجل لم يدع هذه الدعاية سوى هذا الإنسان، ولكن الغريب هو معرفتك لهذا الخبر، واستغربت ايضا أمر قيامه من دون الناس للترحيب بقدومك. فقلت له، لأنه سرق وشكوته وكنت على حق، ولما علم بأمر سفري للجزائر ظن وأصحابه بأنني سوف لا أعود الى باتنة، فأخذ وأصدقاؤه يطلقون مختلف الاشاعات حوالي، وغرضه من ذلك إخراجي من منزلي، وعندما شاهدوني وكشفت مؤامرتهم أتى يتملقني لستر نفسه وأصحابه. عينت فيما بعد مدير تعاضدية بيع التمور في بسكرة، سألني في البدء أمين مال هذه التعاضدية إذا كانت لدي خبرة في معرفة اصناف التمور فأجبته بالإيجاب، فسلمني مفتاح مخزن التمور، اجتمعت بحكم مهمتي الجديدة ببعض التجار الذين اعترفوا لي بمشاركة في نهب التمور، وبسرورهم بجيء الذي سيضع حدا لهذا النهب، لأنني - حسب رأيهم - ابن الوطن وذو ماضي نقي، وقد أبديت لهم ارتياحي لهذا التعيين وبالاخص بعدما تحققت من تلاعب الايدي في اموال الشعب والحكومة، وإذا كتب لي البقاء هنا فانني سأبذل قصارى جهدي لتديل هذه الحالة إن شاء اللّه، وبعدئذ أتوني ببعض وسطاء التجار اي المتوسطين، الذين أتوا ليشكوا ما اصابهم من الحيف في عهد المدير السابق، وكان لا يتعامل إلا مع كبارالتجار، على أساس اتفاقات خاصة بينه وبينهم على شراء التمور بسعر وتسجيلها بسعر آخر، وللمثل: إن بيع لهم التمور التي تباع في السوق بسعر 200 دج لقنطار واحد، ب 170دج على أن يسجلوا لديهم سعرها ب 120دج، وبهذه الطريقة كان يتقاسم اللصوص الغنيمة فيما بينهم، للتجار 30 دج و50 دج للدكتور وجماعته على القنطار وهم البديل نائب الوالي ومدير جمعية لاسباب الفلاحية، وبقيت هذه العملية في طي الكتمان بين التجار والمسؤولين الثلاثة. اتصل كبار التجار بعد تعييني مدير المخزن للتمور برئيس التعاضدية، وطلبوا منه إبعادي عن التعاضدية كشيوعي فرفض طلبهم، وقال لهم: إنه رجل مخلص وأمين ويصلح لهذا العمل لنا وللحكومة، وهو حسن السيرة وله كلمة مسموعة عندنا وفي الأوراس، ولهذا لا أرى من الضروري امر إبعاده، ولما لم يستجب لطلبهم دبروا مؤامرة ضده، وعزلوه من منصبه وعينوا رئيسا آخر محله. أتاني فيما بعد امين مال التعاضدية، ليعلمني بأن الرئيس الجديد للتعاضدية قد قرر إقالتي من منصبي فأجبته انني لم اطلب هذا المنصب من احد، وإنما كلفت به بأمر الحكومة التي أمرتني بالمجيئ اليكم، وعملكم هذا يبرهن على عصيانكم لأوامر الحكومة، ولن أعمل مع أناس لا يقابلونني: ويقاومون اعمالي، ولدى خروجي من المخزن التقيت ببعض الاصدقاء الذين أشاروا على بالبقاء في منصبي وإعلام الادارة المركزية في الجزائر بالحدث. أعلمت وزارة الزراعة هاتفيا بهذا الحادث فطلبوا مني تقديم تقرير به، ووعدوني بمقابلة وزير الزراعة في يوم الغد. وبالفعل تمت المقابلة واعلمت الوزير بكل ماحدث، فأشار علي بالعودة إلى بسكرة صحبة مبعوث الوزارة لمباشرة العمل في المر كز الذي عينت به، فرفضت عرضه هذا شاكرا، إنني لن أعود الى بسكرة قلت له، ولن أعمل معكم طالما انكم لم تقوموا بأي تحقيق حول هذه القضية وما دامت هذه سياستكم، وأخيرا عينت مديرا لفندق تميڤاد، فوجدت فيه نفس الوضعية التي وجدتها في بسكرة، ورأيت نفسي عاجزا عن تقويم أي اعوجاج حتى عن البحث فيما يقع حولي من مهازل واختلاسات، وأخيرا قدمت استقالتي لوزير الزراعة، الذي أجابني بقوله: إذا كان من هم امثالك من المناضلين القدماء يعجزون عن المساهمة في الإدارة والتسيير فمن هو الذي سيقوم بهذا العمل؟ اسمح لي - اجبته - أن اقدم لك مثلا واحدا بسيطا: إذا اتيت بكيلو من الطماطم السليمة ووضعته في سلة من الطماطم العفنة فإن مصير ذلك الكيلو يكون العفن والفساد، اليس من الأفضل تصفية تلك السلة من الطماطم الفاسدة لحفظ السليمة من العفن، اجاب الوزير أجل، هذا كلام معقول ولكن من الصعب علي القيام بمثل هذا العمل في إدارة كلها من المختلسين فما العمل؟ أريد أن أعرض عليك رأيا لعلك تقبله، فأجاب: تفضل اذا رأيته صائبا فسأقبله. ان أول عمل تقوم به إغلاق مخزن التمور في بس كرة ثم تؤلف لجنة من الاخصائيين الثقاة في التمور، لتقوم بتقدير قيمة المحصول السنوي في غلة التمور بالقنطار لتبيعها بالجملة دون معايسات ولا اختلاسات، وأما إذا بقيت دار لقمان على حالها، فإنه من الصعب مراقبة الاختلاسات طالما أن حاميها خراميها. اقتنع الوزير بصواب هذا الرأي، وطلب في الحال تطبيقه فأمر كاتبه بإغلاق مخزن التمور وعدم المس بغلتها حتى تأتي اللجنة لتقويم الغلة، واتبعوا الطريقة التي أشرت بها. انتقلت إلى البادية وكانت لدينا أملاك في المزيرعة قرب من زريبة الواد، فوجدت اهل العرش كلهم مجتمعين ينتظرون السلطات المحلية التي تأتيهم لكي تبني لهم الديار وتستخرج المياه كما وعدتهم، ولم يكن لديهم سوى بئرا واحدا، ويقيمون في مغارات عفنة تعافها البهائم غير اهل لسكناها، فقلت لهم لقد دمر المستعمرون بلادنا، وليس بوسع الحكومة إصلاح ما افسده المستعمرون طيلة أكثر من قرن، وبالاخص خلال حربنا التحريرية، بضربة سحرية واحدة، وماعليكم إلا أن تشمروا عن سواعدكم، وان تتعاونوا كما تعاونتم في السابق بطريقة التويزة لنبدء ببناء منازلنا، ولنخصص ثلاثة أيام لإعادة بناء منزل لكل واحد منا ويد اللّه مع الجماعة، حتى نستعيد بناء قريتنا بكاملها، وسأطلب لكم القروض اللازمة لهذا الغرض، وعندها يأتي دورنا تساعدنا الحكومة على اقامة مانحن بحاجة إليه من آبار وأبنية اخرى ومنها مدرسة ومستوصف إلى ما هناك.