تميم أبو دقة داعية إسلامي أحمدي القول الفصل في السرقات الأدبية الاتهام بالسرقة الأدبية ظاهرة قديمة قِدَم الأدب ذاته، وفي الأدب العربي نرى أنه قد اتُّهم الشعراء الجاهليون كلُّهم بأنهم قد سرقوا من غيرهم، لذلك نجدهم قد دافعوا ضد هذه التهمة وظهر ذلك في شعرهم. فقال طَرَفة بن العبد: وَلا أُغيرُ عَلى الأَشعارِ أَسرِقُها……….عَنها غَنيتُ وَشَرُّ الناسِ مَن سَرقا وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه الشاعر المخضرم (أي شهد الجاهلية والإسلام): لا أسْرِقُ الشُّعَرَاءَ ما نَطَقُوا………. بَلْ لا يُوَافِقُ شِعْرَهُمْ شِعْري ولكنهم لم يكونوا يرون استخدام التعابير التي قيلت من قبل أو الأغراض السابقة من السرقة في شيء، لذلك قال عنترة مدافعا في مطلع معلقته: هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّمِ………. أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهُّمِ وقال كعب بن زهير رضي الله عنه المخضرم أيضا: وما أرانا نقولُ إلا معارًا …………. ومعادًا من قولنا مكرورا وكان امرؤ القيس قد قال من قبل: عوجا عَلى الطَلَلِ المَحيلِ لِأَنَن……. نَبكي الدِيارَ كَما بَكى اِبنُ خِذام والواقع أن هذا الاتهام هو نوع من الإفك وانعكاس لواقع أخلاقي فاسد عموما، ولعلَّ استسهال اتهام الآخرين بالسرقة وغيرها أصغر الخطايا في مجتمع يكفي أنه سمِّي بالجاهلي تعبيرا عن وضعه البائس. وبما أن هذا المسلك يخالف تعاليم الإسلام التي ارتقت بالأخلاق ونهت عن قذف الآخرين بالتهم الباطلة، لذلك كان من الطبيعي أن تختفي هذه النزعة مع بداية ظهور الإسلام وتُستبدل بمسلك مختلف أرساه القرآن الكريم بل وقرَّره منهجا مقبولا لنقده، ألا وهو الإتيان بالمثل. فإن كان الناقد عاجزا عن الإتيان بالمثل فالأولى أن يصمت، لأن كلامه لن يكون ذا قيمة ما دام هو بنفسه لا يمتلك الكفاءة ولا الجدارة. لذلك نجد أنه قد نشأ مع نشوء الإسلام فن المعارضات والنقائض الذي في أصله ليس سوى منهج نقدي في الحقيقة أدى إلى توليد هذه الصنوف الجميلة من الأدب، والتي من المرجَّح ألا يكون قد شهدها أدب في لغة أو ثقافة أخرى، وإن شهد شيئا شبيها فلا بد أن يكون محدودا جدا ولا يقارن مطلقا بما في الأدب العربي من سعةٍ وغنىً. وبما أنه كان مقدَّرا أن تبدأ بذرة الفساد بعد القرن الثالث الهجري وفقا للأنباء إلى أن تتعاظم إلى فساد كبير بعد ألف عام، فمن الطبيعي أن تنشأ مجددا هذه النزعة بعد أن كبَتها الإسلام. وصحيح أنه قد ظهر بعض النقَّاد المتهِمين بالسرقة منذ القرن الثاني الهجري مخالفين مبدأ الإتيان بالمثل، ولكن مع نهايات القرن الثالث الهجري وما بعده، فقد توسَّع النقد والاتهام بالسرقة بصورة غير مسبوقة وبدأت تبرز أصوات تتعالى به؛ فقد اتُّهم المتنبي (ت 354 ه) وأبو تمام (ت 231 ه) والبحتري (ت 284 ه) وغيرهم من كبار الشعراء بالسرقة، وأُلِّفت العديد من المصنفات في هذه السرقات المزعومة، ليس من الشعر والأدب السابق فحسب، بل اتهم البعض الشعراء بالسرقة من القرآن الكريم! كذلك ابتدع بعض الحاقدين من النقاد مصطلحات غير موفقة تنزُّ حقدا وضغينة ويتضح فيها التغريض للإساءة إلى شاعر ما، وكان من أبرزهم شخص يدعى الحاتمي (ت 388ه)، وقيل إنه كان شاعرا لكن لم يُعرف من شعره شيء ولم يشتهر به، وكان لا شغل له سوى انتقاد المتنبي الذي أَلَّف في نقده المصنفات العديدة. فمن أمثله مصطلحات هذا الشخص الذي أسرف في الاصطلاحات اصطلاح "الاهتدام" في وصف ما يقتبسه شاعر من شطر أو تراكيب ممن سبقه. والاهتدام عنده من الهدم، أي كأن الشاعر الجديد قد هدم بيت الشاعر القديم ونقضه ثم أخذ تراكيبه واستخدمها!! فبأي صورة وأي منطق يرى أن استخدام هذه التعابير يهدمُ شعرَ الشاعر الأول؟ فهل يضرُّ هذا الاقتباس شعرَ الأول شيئا؟ أم أنه في الواقع إقرارٌ واعترافٌ بقوة هذه التعابير من قِبَل الثاني؟ ومع ذلك فإن هذا المسلك رغم انتشاره وتوسُّعه لم يكن المسلك السائد في الأدب العربي، بل ظهر عدد من كبار الأدباء والنُّقاد الذين لم يقبلوا هذه الآراء الشاذة والاتهامات بالسرقة من قِبَل المغرِّضين والجهلة، وكان موقفهم أن مسألة السرقة الأدبية لا يمكن أن يوصف بها شاعر مجيد أو أديب أريب، وإن كان في نصوصه بعض ما قد يكون مسبوقا تركيبا أو معنى، لأن التراكيب والمعاني ليست ملكا لأحد، كما أن استخدامها في نطاق عملٍ متكامل بديع لا يُضعف هذا العمل بل يقويه. أما ما يمكن أن يوصف بالسرقة فإنما هو عمل البليدين الذين لا يقدرون على الإبداع ولا يمكن أن يختلطوا بالمبرِّزين أو أن يحظوا بأي نوع من الاهتمام أو الشهرة. لذلك نجد أن هؤلاء النُّقاد المغرِّضين المدفوعين بالحقد والحسد قد تعرَّضوا بأنفسهم للنقد وتبيان أن موقفهم غير صحيح ممن جاءوا بعدهم، فهذا الحاتمي قد انتُقد بسبب موقفه هذا، ورأى من جاء بعده أن مصطلحاته غير موفقة، وكان منهم ابن رشيق (ت 456 ه) الذي من الواضح أنه أطول باعا بهذه الصناعة وأكثر دقة، إذ قال حول هذا الأمر: ” وقد أتى الحاتمي في حلية المحاضرة (كتابه) بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق… وكلها قريب من قريب. وقد استعمل بعضها في مكان بعض” (العمدة لابن رشيق) وقد أجاد ابن رشيق في كتابه العمدة في النقد إلى حد كبير، وجاء نقده متوازنا وموقفه قريبا جدا من الصحة، وقدَّم الموقف الصحيح الذي كان ولا يزال موقف النُّقاد المتمكنين المنصفين. فمما قاله حول السرقات الشعرية المزعومة: “هذا باب متّسع جدّا لا يقدر أحد من الشّعراء أن يدعي السّلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلاّ عن الحاذق بالصّناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى عن الجاهل الغافل” (العمدة لابن رشيق) وقد توسَّع ابن رشيق في تبيان الفارق بين السرقة المذمومة والاقتباس أو الاستعارة أو التوارد، وبيَّن أنواعه بصورة رائعة والتي منها أن يكون الشاعر الثاني قد سمع شيئا ثم نسيه. وقد اتخذ عموما موقفا كان في الواقع موقف أستاذه عبد الكريم النهشلي الذي روى عنه ابن رشيق قوله: “اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سُبق إليه جهل. ولكن المختار له عندي أواسط الحالات.” أي أنه لم يكن يرى ما قد سمي سرقةً سرقةً حقيقة، بل هو اقتباس وتضمين وغير ذلك مما يجوز للشاعر بل لا بد منه بالنسبة له. وهذا الموقف الصحيح المتوازن قد اتخذه عدد من كبار الأدباء والنقاد كمثل الجاحظ (ت 255ه) الذي قال: “لا يُعلَم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تامّ، أو في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلاّ وكلّ من جاء من الشّعراء من بعده، أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره، فإنّه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكا فيه” (البيان والتبيين). ويقول ابن طباطبا (ت 366 ه): “إن الشّعراء السّابقين غلبوا على المعاني الشّعرية فضاق السّبيل أمام المحدثين، ولم يكن من الأخذ بدّ” (عيار الشعر) ويذهب الآمدي (ت 370ه) إلى أبعد من ذلك فيقول: “إنّ السّرقة ليست من مساوئ الشّعراء، وخاصّة المتأخّرين إذ كان هذا باب ما تعرى منه متقدّم، ولا متأخّر” (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري) وهكذا فإن المغرِّض الباحث عن الآراء الشاذة سيجد ضالته في أقوال كقول الحاتمي بمهاجمة المتنبي ومحاولة الانتقاص منه، وليس من السهل حتى على الباحث غير المغرِّض ألا يقع في فخِّ الحاتمي أو أمثاله فيعتمد اصطلاحاته وموازينه المختلة. فنجد مثلا بعض المتأخرين كالدكتور شوقي ضيف قد وقع في فخِّ الحاتمي، ووصف معارضة وتناص واقتباس ابن زيدون بالاهتدام أيضا! ولكن لا بد من الإدراك أن الموقف الصحيح من هذه السرقات إنما هو ما بينه كبار الأدباء والنقاد كما أسلفنا سابقا، وهو أن تضمين نصوص أو أفكار من نصوص سابقة لا يعدُّ سرقة حقيقة، وأن رفع العقيرة بهذا الاتهام كثيرا ما يكون مرجعه جهل المنتقد أو تغريضه وحقده وحسده. وهذا الموقف كان الموقف السائد بين النُّقاد والأدباء لا تلك الآراء الشاذة. وهكذا، فليس عجيبا أن يتعرَّض أدب المسيح الموعود عليه السلام من شعر ونثر لهذه التهمة من جانب جهلة ومغرِّضين شأنهم كشأن أسلافهم ممن لم تثبت لهم أي جدارة – علما أن حضرته قد دعا معاصريه أن يكتبوا مثل ما كتب أو خير منه ليثبتوا مقدرتهم وجدارتهم فلم يقدروا ولن يقدر من جاء بعدهم – وهذا بحدِّ ذاته يعدُّ إقرارا بأنه يقف في مصافِّ كبار كُتَّاب العربية وشعرائها. وكيف لا، وقد كتب كتبا عربية فصيحة بليغة بلغت زُهاء إثنين وعشرين كتابا، وقدَّم قصائد للعربية بلغ عدد أبياتها ما يفوق الثلاثة آلاف بيت، وجاءت أعماله وكأنها استمرار لمسيرة الأدب العربي رابطةً التراث بالحاضر وواضعة أسسا للمستقبل، ومقدِّمة أدبا هادفا مثمرا غنيا احتوى ذخائر نهضة الأمة الدينية كمقدِّمة لنهضتها الشاملة. هذا ناهيك عن الخدمات للغة والأدب والتجديدات التي قام بها حضرته في أعماله والتي ترتبط حتما ارتباطا وثيقا ببعثته لإحياء الإسلام. وهكذا نقول مجددا، إن هذا الاتهام لحضرته إنما هو إقرار بحدِّ ذاته بعلوِّ كعبه ورفعة مكانته وسموِّها بين أدباء وشعراء العربية على مر التاريخ، وكان لا بد من هذا الاتهام لثبوت هذه الجدارة ولكي تجري عليه سُنَّة هؤلاء العظماء. علما أن ما ينسبونه إلى السرقة ليس سوى عدد محدود جدا من التعابير والصور التي وظِّفت توظيفا أروع وأجمل وأكمل مما كانت عليه، وظهر من خلال هذا التوظيف مدى قدرة حضرته وتمكُّنه؛ لأن الاقتباس المتقن عمل لا يقدر عليه إلا المتمكنون. وليس أمام الأدباء والباحثين إلا أن يطَّلعوا على هذه الأعمال ليروا هذه البدائع بأنفسهم بمعزل عن آراء الجهلة والمغرِّضين الحاقدين الذين يشهدون بمسلكهم هذا أنهم دخلوا في جاهلية ثانية وأتَّبعوا سنن من قبلهم، وبهذا قدَّموا دليلا إضافيا على صدق حضرته. ******************* المقامة العمَّانيِّة السَّفيهُ الذي لم ينظمْ بيتَ شعرٍ واحدٍ في حياته، ولم يخطَّ قلُمه الأدبَ ولم يغمسْه في دواته، والذي لا يعلمُ من العربيةِ إلا قشورها، ولم يَدْنُ مِنْ حديقتِها ولم يتسوَّرْ سورَها، ولا يعلمُ إلا النزرَ اليسيرَ مِنْ شهيرِ قواعدِ العربية، ولا حظَّ له ولا نصيبَ في المُلحِ الأدبية، وما هو بثَقيِفٍ لَقيفٍ، ولا بأريبٍ حصيفٍ، صاحبُ الأسلوبِ الجافِّ القَشيف، والذوقِ الخشن الخَشيف، من استزلَّهُ الشيطانُ وأوقعَه في كنيفِ الذلَّة، واكتحل بمِرْوَدٍ قذرٍ فأعمى لَه المقلة، يتطاولُ على سيدِ البيان، وسلطانِ القلمِ واللسان، وصاحبِ العصرِ والأوان، بزورٍ وكذبٍ وبهتان، ويدَّعي طولَ الباعِ في الأدب، وما هو إلا كمجدوعِ الأنفِ أَزْعرَ مقطوعِ الذَّنَب، سفعَ الله له بما اكتسب ناصيتَه، وجمعَ له من السَّقَط أمثاله حاشيتَه. أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبع هواه، وضَلَّ في غياهبِ سوءِ الظنِّ والكبرِ والغرورِ وتاه، ضيَّع الدَّرَّ بحُمقٍ وصلَف، وانكبَّ وولغَ في الجِيَف، وشرب كأس الذِّلة مختومة بالقَرَف، ونابَه من سُنَّة المكذبين نائبة، وباء بسوء العاقبة. زعَمَ السفيهُ بأنَّ أحمدَ مَا لَهُ ….. في الشعرِ أو عذبِ البيانِ نصيبُ وبأنَّ معجزةَ الفصاحةِ كِذْبةٌ….. والنثرَ أكثرُ دُرِّهِ مسلوبُ عجبًا ولا عجبٌ إذا ما قالها….. أعمى وقيحٌ حقدُه مشبوبُ مَنْ ذا الذي نَظَمَ الجُمَانَ قِلادةً ….. عِقْدًا فريدًا زانَهُ الترتيبُ مَنْ صَاغَ أَبكارَ المعاني جملةً ….. سُبِكت وسحرُ بيانها مسكوبُ مَنْ جابَ ميدانَ الفصاحةِ فارسًا ….. عَرَفَتْ له الفرسانُ حين يجوبُ مَنْ كانَ مطلبُهُ انتصارَ محمدٍ….. فبحبِّهِ قد حُقِّقَ المطلوبُ هذا الذي حازَ الفضائلَ كلَّها….. هذا نبيٌّ شاعرٌ وأديبُ ما ضرَّهُ كَذِبُ اللئامِ وما ثنى….. منه العزيمةَ والثباتَ كذوبُ إنْ أنكرَ الشمس الذكيَّة كاذبٌ….. أَتُراه يحجبُ ضوءَها التكذيبُ؟ يا مَنْ رَفعتَ عقيرةً معقورةً ….. أَقْصِرْ فَعيْبُكَ باديًا وتَعيبُ! هذي الفصاحةُ لستَ مِن فرسانها….. فاخسأْ فمثلكَ في الزمانِ عجيبُ