غسّالة النّوادر، وصف شعبي يطلق في المجتمعات الفلاحيّة الجزائريّة، على الأمطار التي تتساقط في شهر أوت وبداية الخريف، لأنها كانت تُنظِّف “النّوادر”.. و”النّوادر” ( مفردها نادر) هي الأماكن التي تتم فيها عمليّة جمع ودرس المحاصيل الزّراعيّة، مثل القمح والشّعير وغيرها.. كان الفلاحون يستبشرون بهذه الأمطار لأنّها عندما “تغسل” النّوادر، تُحوِّل بقايا عمليَّتَيْ الحصاد والدّرس إلى أسمدة عضويّة تمتزج بالتّربة، ولأنّها تُليِّنُ لهم الأرض المتصلِّبة بفعل حرارة الصّيْف، فيشرعون بعدها مباشرة في عملية حرثِ التربة وقَلْبِها في مرحلة أولى قبل الزرع، من أجل أن تتغذّى التربةُ جيِّدا بالمواد العضويّة المتبقيّة عن عمليات الحصاد والدّرس.. كانت أمطار الخريف بالأمس نافعةً، وكان الفلاّحون يستبشرون بها، ولم تكن تمثّل أيّ خطر بالنّسبة إليهم، رغم تواضع بناءاتهم وهشاشة الكثير منها، ورغم أنّ غالبيتهم كانوا يتنقّلون بواسطة الخيل والحمير!.. أمّا اليوم وبعد أن انتقلنا من “البداوة” إلى “الحضارة”وانتقلنا من مجتمع فلاحي ريفي، إلى مجتمع مديني “صناعي” “متحضّر”وأصبحنا نسكن العمارات والفيلات، كما أصبحنا نتنقّل في السيارات والقطارات والطّائرات.. لم تعد أمطار الخريف نافعةً وفألَ خير على السكّان كما كانت من قبل، لأنّها لم تعد تغذِّي الطبيعة بالمواد العضويّة وتُهيِّءُ التربةَ للإخصاب والزّرع.. وأصبحت ضارّةً ومُخيفة، لأنّها أصبحت “جرّافة” مدن وأحياء بأكملها.. وذلك لأننا حين انتقلنا من البداوة إلى “التحضر” لم ننتقل برحمة وتخطيط ومنهجيّة، لقد رُحْنا نتنافس ونتطاول في “العمران”، وشمل التّنافس وحُمّى التّملّك حتى مجاري الوديان، فاستولينا عليها بكل الطرق، وبنينا فوقها.. انتقلنا جميعا إلى المدينة، ولكنّنا لم نستفد من المدنيّة ثقافيّا في شيء، بقينا نطلّ من نوافذ سكناتنا في المدينة، ونرمي المُهْمَلات في الشوارع، ونطلّ من نوافذ سيّاراتنا التي عوّضت الخيل والحمير، ونرمي القارورات الفارغة وعلب اليايورت وحفّاظات الأطفال..وأصبح الباعةُ الجدد يرمون بقايا سلعهم الفاسدة في كلّ مكان، كما أصبح البنّاؤون والمقاولون الذين يتكاثرون يوما بعد آخر، يرمون الأنقاض والإسمنت المسلّح والحديد في مجاري الأوديّة دون رقيب..عندها فلا لومَ على الطّبيعةِ التي يتواطأ الجميعُ على اغتصابها،أن تكون لها ردّة فعل.. يجب أن تنتقم وتثور على الفوضى التي تتسبّب في خنق رئَتَيْها -من خلال غلق المجاري والأوديّة التي تتنفّس منها-بأطنان القمامة والموادّ البلاستيكيّة والإسمنت والقطع الحديديّة، وغيرها.. فتصبحُ أمطارها خطيرةً على المدن التي لا تحترم معايير النّظافة والعمران.. تجرف المباني والسيّارات وتُزهِقُ الأرواحَ الكثيرة… أمّا عن المسؤولين الذين يَغُضُّون الطَّرْفَ على فوضى العمران، ويُسَوُّون الوضعيّات السكنيّة للذين يبنون في الأوديّة والمجاري، ولا يهتمّون لأمر التّهيئة العمرانيّة السّليمة في المدن التي يسيِّرونها، ولا ينظِّفون البالوعات، ولا يحاربون فوضى القمامات والمفرغات، ولا يستشرفون الأحداث ويَسْتَبِقُون الكوارث.. ثمّ تراهم يوم الطوفان يُجَنِّدون الجموع لإنقاذ الضّحايا ويملؤون الشَّاشات بالتّصريحات.. فهؤلاء ينطبق عليهم المثل الشّعبي: “كي دُووْدَتْ ناضتْ تَنْدَبْ”،أو ” كي اتّخَذْ شْرى مُكْحْلَة”..والخلاصةُ أنّنا اليومَ في حَاجَةٍ إلى سُيُولٍ جَارفَةٍ أقوى من “غسّالة النّوادر” لتنظيفِ كثيرٍ من الذّهنيّاتِ والعقولِ المُتَكَلِّسَةِ ثقافيّا وسيّاسيا، حتى لا تجرفَ السيولُ مُدُنَنَا، وتزهقَ أرواحَ أبنائنا.