مما لا شك فيه أن العين تحب المنظر الحسن وتهواه وتميل إليه ، وإذا وقعت العين على ما يعجبها مال القلب إليه ولا شك ، كما قيل: ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف فإذا أضيف إلى حسن المظهر الخارجي حسن المنطق والوقار في الحركة والسكون والدخول والخروج ، واشتهر صاحبه بحسن السيرة بين الناس ، فلا شك أن الناس سينسبون صاحب هذه الصفات الحميدة لأهل الخير والصلاح والديانة. وهذا هو ما نعنيه بحسن السمت. وقد حث الشرع المطهر على التحلي بحسن السمت فأباح للعبد أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مخيلة فقال الله تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: '' إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة''. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون ( أي قديم ) فقال : '' ألك مال؟'' قال : نعم. قال: '' من أي المال؟'' قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: '' فإذا آتاك الله مالا فليُر أثرُ نعمة الله عليك وكرامته''. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا شعثا قد تفرق شعره قال: '' أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره؟'' ورأى رجلا آخر وعليه ثياب وسخة فقال : '' أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه؟''.كما قال في نفس السياق : '' من كان له شعر فليكرمه''. ولما نهى عن الكبر ظن بعض الناس أن العناية بالمظهر والهندام من الكبر فبين لهم صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر فقال: '' إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس''. كما كان هو نفسه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس هديا وسمتا وجمالا وبهاء ، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : '' رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان ( أي مضيئة) فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر ،وعليه حلة حمراء ، فإذا هو عندي أحسن من القمر''. حسن الخلق والسيرة من حسن السمت مما لاشك فيه أن العناية بالظاهر لو لم يرافقها عناية بالباطن ومحاسن الأخلاق والعناية بحسن السيرة بين الناس فإنها تصبح وبالا على صاحبها ، لهذا كان الصالحون يجمعون بين حسن الهندام وجمال المظهر وبين حسن السيرة وجمال الخُلُق ، هذا أحمد بن حنبل رحمه الله يقول عنه الميموني رحمه الله تعالى : ما رأيت أحدا أنظف ثوبا ، ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبا واشد بياضا من أحمد بن حنبل. وعلى الجانب الآخر من جوانب حسن السمت يقول عنه المَروذي رحمه الله تعالى : لم أر الفقير في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله ، كان مائلا إليهم مُقْصِرا عن أهل الدنيا ، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار ، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل ، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر ، يقعد حيث انتهى به المجلس. ويقول ابن الجوزي رحمه تعالى: الكمال عزيز، والكامل قليل الوجود. فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن ، وحسن صورة الباطن ، وصورة البدن تسمى خَلقا ، وصورة الباطن تسمى خُلُقا ، ودليل كمال صورة البدن حسن السمت واستعمال الأدب ، ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق. فالطبائع: العفة والنزاهة والأنفة من الجهل ، ومباعدة الشَّرَه. والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف والحلم عن الجاهل. وإذا تزين العبد بحسن السمت في الظاهر والباطن صار قدوة يقتدى بها ، ويستفيد الناس من رؤيته قبل منطقه ، يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى : كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه ، لا لاقتباس علمه ؛ وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته. وقال ابن مفلح رحمه تعالى: كان يحضر مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون ، أقل من خمسمائة يكتبون ، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت. يتشبهون بالنبي ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس سمتا وهديا فقد كانوا يتشبهون به حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ''إن أشبه الناس دَلا ( أي حاله من حيث السكينة والوقار وحسن السيرة) وسمتا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أم عبد(يعني ابن مسعود) من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه...''. وقالت عائشة رضي الله عنها : '' ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة رضي الله عنها''. وإذا كان الأمر كذلك فإن أولى الناس بحسن السمت لهم أهل العلم والدين والصلاح ولهذا حديث آخر في مقال قادم بإذن الله تعالى ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.