استطاع الإنذار الذي أطلقته المنظمة العالمية للصحة بخصوص ظهور أنفلونزا الخنازير، وارتفاع مؤشر خطرها إلى الدرجة الخامسة من سلم فيه ستة درجات,أن يستحوذ خلال فترة وجيزة على اهتمام كل سكان العالم، ويثير مخاوفهم، حيث راح الجميع يتساءلون عن سر هذا الداء الفتاك الذي ظهر فجأة، وعن كيفية الوقاية منه وتجنب الوقوع في مطباته. وراحت بالموازاة مع ذلك الأوساط الطبية تعلن حالة الطوارئ القصوى، ومعها القطاعات الأخرى التي باتت تتأهب مستعدة للتصدي ومقاومة الأنفلونزا بكل ما أوتيت من قوة استحضار اللقاحات والواقيات، كما هو الحال بالنسبة لوزارة الصحة عندنا. لحد الساعة لم تظهر أعراض هذا المرض الخبيث إلا في مناطق بالكاد تكون محصورة جغرافيا ومقيدة معرفيا, إلا أن باقي سكان المعمورة يعيشون الآن على وقع الخوف والرهبة من انتشار العدوى التي يصفها الأخصائيون بالسريعة والمهلكة. ومع ذلك نقول انه من خلال التجارب السابقة مع الصادرات الإعلامية الموقوتة التي ما فتئت وان تطلقها اللوبيات الغربية, لاسيما الأمريكية، كأسطورة القاعدة وأسلحة الدمار الشامل العراقية وغيرها كثير, معتمدة في ذلك على حرب الإعلام الذي تتحكم في دواليبه مقاليد إدارته بنسبة كبيرة عالميا, أصبحنا نشك في كل شيء يأتينا من عندهم, خصوصا وأن هذه الأعراض الأنفلونزية لم تظهر إلا بعد الأزمة المالية التي باتت تهدد استقرار الأنظمة الرأسمالية وتنبئ بعاصفة هوجاء تأتي على أخضرها ويابسها, بعد أن وجدت نفسها وجها لوجه مع ضائقة لا مفر من تبعاتها, حتى أنها لم تعد قادرة على إعطاء المزيد من جرعات الصبر لشعوبها التي بدأت تنتفض من حين إلى آخر ,من خلال الخروج إلى الشوارع في مسيرات حاشدة يطالبون من خلالها وضع حد للنزيف الاقتصاد ومعه المالي والمعيشي ,كما حصل مؤخرا في فرنسا. إن المتمعن جيدا في خفايا وخبايا مثل هذه الدعوات, يتضح له جليا أن من ورائها مآرب ومقاصد غير بريئة, وتحتم علينا التربص واستكشاف الأحشاء من خلال الغوص إلى الأعماق وليس ملامسة السطح والبقاء في مدرجات المتفرجين غير المناصرين. من المضحكات المبكيات,التي أجد نفسي مصابا بسببها بتسونامي القرف إلى حد التخمة من التقزز والاشمئزاز الزائد عن كل لزوم ,إننا ننتفض هكذا فجأة ودون أي سابق إنذار، في كل مرة لحالة من هذه الحالات المشابهة لأنفلونزا الخنازير, ونذهب بعيدا من حيث السيل المتدفق من التحليلات والمناقشات التي تضفي على الرأي العام الكثير من الريب والرهبة والانتظار القاتل لشيء ربما لا يأتي كما تعودنا في الحلقات السابقة ,لان الأمر أشبه بمسلسل نور ومهند الذي استطاع أن يخدر عقول الملايين منا ,بل ويأخذ حتى من وقت الدعاة والمدعين والأدعياء الذين لم يبخلوا على العالم الإسلامي بكذا فتوى اتسم أغلبها بالمرضية إلى حد الهزل والاستهجان الملفوفين بثوب التفاهة والاستهتار. أرى انه من واجبنا على الأقل في الظرف الراهن الالتفات إلى أنفلونزا أخطر بكثير من أنفلونزا الخنازير التي لا تزال فرضية وصولها إلينا تثير الجدل والنقاشات غير المنتهية بين المختصين والمهتمين والرسميين, ألا وهي أنفلونزا التفسخ والانحلال الأخلاقي التي تجرفنا بقوة الفيضانات الشهيرة التي اجتاحت ذات يوم باب الوادي, لا ادري لماذا نتجاهل خطورة أننا نغرق ,في حين تبقى أعيننا مشرئبة لحالة الطقس. حين يطالب احد الحقوقيين بإلغاء عقوبة الإعدام, و يعارضه آخر محسوب على تيار مخالف, تقوم الدنيا من خلال الكتابات المؤيدة والمضادة, ونجد لهذه الأخيرة كل الوجود في المنابر الإعلامية, ... وحين يعاكس رئيس الوزراء الايطالي برلسكوني شقراء جميلة في الثامنة عشر من عمرها ,وتطلب زوجته بسبب مراهقته الطلاق ,يتحول الخبر إلى حدث مهم عندنا فنذهب بالتحليل والنقد بعيدا. أما عندما يتعلق الأمر بتصريح لإحدى المحاميات التي كشفت عن وجود ما لا يقل عن ستة آلاف بيت دعارة غير شرعية في العاصمة لوحدها, نمر عليه مرور الكرام, وكأن هذه البيوت مراكز بحث وإشعاع علمي، أو زوايا ومساجد يلتقي فيها الأئمة بالمصلين, وعندما نقرا يوميا العشرات من حالات الانتحار التي يروح ضحيتها شباب وشابات في مقتبل العمر بسبب مشاكل عاطفية, نكتفي بقراءة العنوان والاستغفار, وحين نقرأ يوميا العشرات أيضا من حالات الاغتصاب التي يروح ضحيتها قصر, والعشرات كذلك من عمليات التحويل والتحريض على الفسق والدعارة والهروب من البيت, نجد ربما متعة في مثل هذه القراءات أو نكتفي بدعوة الله أن يبعد عنا شر البلاء. لكن واقع الحال يحتم علينا الرجوع إلى لغة العقل ونضع أنفسنا أمام أسئلة جوهرية, ونزيح من أمام أعيننا غشاء اللامبالاة ورداء الاستئناس بأجوبة النوم المستنسخة التي لا تخرج عن نطاق العفة والمحافظة المتوهمتين: إلى أين يتجه مصيرنا في ظل هذه الانحرافات..؟,وكيف سيكون مستقبلنا بعد عدة سنوات..؟ من منا اليوم يستطيع أن يذهب إلى حديقة أو شاطئ برفقة عائلته..؟ من منا لا يرى مشاهد وممارسات إيروتيكية مخلة بالحياء وتخدشه داخل الحافلات والقطارات؟ من منا ينكر أن مراهقات في سن الرابعة والخامسة والسادسة عشر متورطات في أكثر من علاقة عاطفية, والتي تحول هذه الأخيرة بفعل الموضة والحضارة العصرية بعد أسبوع واحد إلى جنسية؟ من ينكر أن الهاتف النقال ليس هو المتسبب في الانحراف الأخلاقي الذي أصبح السمة البارزة في وجه مجتمعنا الذي يتخفى وسط قناع الدين والتقاليد؟ بعض الأولياء يظنون أن بناتهم متواجدات في الإقامات الجامعية من اجل التحصيل العلمي والظفر بشهادة تعود عليها بوظيفة محترمة بعد جهد جهيد وانتظار رهيب, لكنهن يسهرن الليالي في العلب الحمراء مع طالبي المتعة واللذة وينزلن من هذه السيارة ليركبن أخرى حسب ذوق الماركات المحبذة, وهن اللواتي تعلمن لتوهن تدخين السجائر والحشيش والشيشة وشرب الخمر، وفي أحايين كثيرة ينتهي الشطر الأول من البداية الشاذة بحمل غير شرعي يبقى في المستشفى مجهول النسب، أو يردى قتيلا بعد فتوى إجهاضية بحتة يشترك فيها العشاق مع قابلات قتلن قبل ذلك ضميرهن منذ زمن؟ وبعدها يبدأ الشطر الثاني من الرحلة ذاتها والمتمثل في البحث والتورط مع عصابات الدعارة أو عصابات ترقيع غشاء البكارة، هذا للتي ندمت على طريق الجنة الخضراء الذي توهمته وسلكته بعد أن وجدت نفسها قابعة في غرفة من غرف جهنم الحمراء. كل هذه الأمثلة حقيقية, وواقعنا الذي نحياه ونعيشه ويوميات حاضرنا التي نتطلع من خلالها إلى إيجاد مستقبل زاهر.. نعم زاهر بمزيد من التفكك والانحلال الاجتماعي في أسمى عفونته وقذارته . أليس الأهم أن نلتفت جميعا إلى أنفلونزا الأخلاق التي تنخر مجتمعنا وتجتاحه من كل الجهات؟ أليس الأهم للتشكيلات التي تطلق على نفسها جمعيات المجتمع المدني ,وجمعيات أولياء التلاميذ, وحقوق الإنسان, ومؤسسات الدين الرسمية منها والكلانديستينية على غرار الملتحين والأدعياء وغير ذلك من الذين يطبلون لكل شيء ويستنكرون لكل شيء أن ينهضوا ويعلنوا حالة الطوارئ ويعترفوا بحقيقة أن مجتمعنا يتهدده خطر التحول إلى مجتمع جنس وعهر وفسق بامتياز, خير من انتظار أنفلونزا الخنازير الذي قد لا يأتي أبدا أو قد لا يكون أصلا..!؟