مع انسحاب القوات الأمريكية من العراق تزايد الحديث و عجت التصريحات والتحليلات السياسية والعسكرية حول ما يعقب الانسحاب، من تأزم الوضع الأمني وتزايد حالة الاحتقان الطائفي، وتزايد الهجمات على المدنيين، وعن مشكلة الأكراد مع الحكومة المركزية والملفات المتعلقة بالفيدرالية وتوزيع الثروات، في وقت رأى قادة أمنيون وسياسيون إن إنسحاب القوات الأمنية من المدن العراقية جاء في وقت غير مناسب. الأزمة العالمية سرعت بتنفيذ الانسحاب الجزئي يمر النظام الرأسمالي العالمي بأقسى واعقد أزماته ولم تعد تجدي كل الحلول التي مارسها خلال مراحل تطوره ، بل وأصبحت كل محاولة لحلها إسهاما في تعميقها فإذا كانت الحروب في المراحل السابقة الوسيلة الجراحية التي تكلف البشرية عموما تضحيات جسيمة، لانقذها من الأزمات السابقة، فالحروب في عصرنا أصبحت احد الأسباب الرئيسية لتفاقم الأزمة الحالية ولاسيما الحرب على العراق واحتلاله ، فقد جاءت الحرب الأمريكية على العراق لمد وتعزيز الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط ولتعزيز الهيمنة على العالم من خلال الهيمنة على مصادر النفط وأسواقه باعتباره المصدر الرئيس للطاقة، وتشجيعا لسباق التسلح في المنطقة والعالم لإنعاش شركات السلاح الأمريكية، وبعد مرور سبع سنوات على الاحتلال فاقمت هذه الحرب، كل تناقضات الهيمنة الأمريكية وعمقت كل أزماتها، فقد تميزت بأنها أطول حرب في التاريخ، وهي تمر بعامها السابع ، بفضل استمرار تصاعد مقاومة الشعب العراقي المتنوعة ورفضه للاحتلال، رغم كل ما اقترفته قوات الاحتلال من جرائم الإبادة والتدمير بما ، وثانيا تميزت بعظم تكاليفها الاقتصادية التي تجاوزت الترليون دولار ، الأمر الذي لم يتحمله اكبر اقتصاد رأسمالي عالمي وساهم إلى حد كبير في تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وثالثا تميزت بالإدانة العالمية وتعرية كل ما ابتكره حكماء الرأسمالية عبر جميع مراحلها، و ما صاغوه من قوانين وتتيح لهم تستير جرائمهم او التهرب من إحكامها ، كما تحمل الشعب الأمريكي العبء الأكبر بعد الشعب العراقي من تبعات هذه الإستراتيجية الفاشلة. وتصاعدت نضالاته ضد الإدارة الأمر الذي أجيرها على إجراء تغييرات شكلية على حربها في العراق مع أنه لا يمس جوهر الإستراتيجية التي تضمن إدامة الهيمنة الأمريكية ، وفي هذا الإطار سعى اوباما لحل الأزمة العالمية من خلال تعهده بإنهاء الحرب على العراق وسحب جميع القوات من هناك، رغم أن وعوده تحولت من الانسحاب الكلي إلى انسحاب جزئي وآمن للقوات المقاتلة مع الإبقاء على قوات غير مقاتلة دون تحديد آجال بقائها ، فضلا عن إبقاء عشرات الآلاف من الخبراء والمستشارين المتغلغلين في كل أجهزة الدولة .. ويقول الخبراء إن الانسحاب الجزئي الآمن من المدن جزء من استرتيجية فاشلة لمعالجة الأزمة المالية العالمية ومعها فقد النظام الرأسمالي كل مبررات وجوده في تطوير البشرية وقدم البرهان على ذلك بنتائج حربه واحتلاله للعراق الذي ارجع العراق قرون إلى الوراء تحت ستار تحريره من الدكتاتورية وإشاعة الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولا يشكل سبيلا لحل أي من أزماته بل ولا حتى لتأخير تفاقمها . العراق في مواجهة معوقات تحقيق المصالحة الوطنية بعد الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من مختلف المدن العراقية ، أصبح العراق في مواجهة حاسمة مع مستقبله الذي يتطلب تحقيق توافق وطني بين مكوناته القومية والدينية والمذهبية على أسس بناء الدولة الجديدة، غير أن الأحداث والتطورات المستمرة منذ الغزو الأمريكي وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003 والتي أنهت حقبة الدولة العراقية القديمة التي تشكلت بعد انهيار الدولة العثمانية، دفعت بالبلد إلى أزمة وطنية حادة تتميز بسمتين أساسيتين تتمثلان في انسداد أفق العملية السياسية القائمة على أسس المحاصصة السياسية القومية والطائفية، واستمرار حالة انعدام الأمن والاستقرار وسيادة مناخ العنف والتهديدات المستمرة بالعودة إلى أطوار الصراع الأهلي. وقد أدت هاتان المعضلتان الرئيسيتان إلى إعاقة عملية المصالحة الوطنية كوسيلة لإعادة بناء الدولة والمجتمع المدمرين، على أسس جديدة، قائمة على المواطنة والتعددية والديمقراطية والشراكة والمساواة والعدالة. وتنعكس أبعاد هذه الأزمة في تعثر عملية الحل السياسي الشامل ووجود رفض ومقاومة بأشكال ومستويات مختلفة للحالة الراهنة المتمثلة في تقليص الشكل الديمقراطي المعبر عنه بالعملية الانتخابية، إلى مجرد نظام احتكاري للمحاصصة والاقتسام الوظيفي بين أحزاب ونخب سياسية تصدرت بدعم من الاحتلال لتمثيل الجماعات القومية والمذهبية والدينية.و العجز عن بناء مؤسسات الجيش والقوات المسلحة على أسس وطنية ومهنية، باعتبار أن ذلك الضمانة لتحقيق الأمن والاستقرار، وكقاعدة لعملية إعادة البناء، مما أدى إلى سيادة منطق الجماعات المسلحة والمليشيات، وكل ما يحيط بذلك من تربص وهواجس، واللجوء إلى العنف كلما تطلب الأمر حسم الخلافات السياسية. يشار إلى إن استمرار هذه الأزمة الوطنية، وتعمقها على المدى الطويل، بسبب تلك العوامل والسياسات التي تتبعها الجماعات المتصارعة، وفي ظل غياب مشروع وطني جامع، سيؤدي بالنتيجة إلى وصول العملية السياسية المتعثرة إلى طريق مسدود، وإلى انزلاق العراق إلى مهاوي الحرب الأهلية والى التقسيم والتجزئة. أزمة العراق لم تنته ومؤشرات كثيرة تدل على ذلك رغم انسحاب القوات الأمريكية، أولا من المدن، ومن ثم من كامل العراق نهاية عام ,2011 إلا أن الفراغ الأمني الذي سيتسبب به ذلك الانسحاب في ظل انعدام وجود جيش وقوات امن وطنية ، والى جانب عدم اكتمال التوافق الوطني على جملة قضايا تتعلق بطريقة اقتسام السلطة والثروة ومستقبل العراق سيؤدي حسب المراقبين للشأن العراقي إلى تعمق حالة الفراغ الأمني في ظل وجود قوى مسلحة متعددة الانتماءات والارتباطات الداخلية والخارجية.كما أن الانتخابات العامة المتوقعة نهاية العام والتي ستجري على ضوء نتائج انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في جانفي الماضي والتي كشفت بدورها عن تحولات هامة في الخارطة السياسية القائمة منذ الاحتلال قادت إلى عملية تفكيك واسعة النطاق للكيانات السياسية المشاركة، وبالذات داخل الجماعتين الشيعية والسنية، من المتوقع أن تؤدي إلى المزيد من الاصطفافات جديدة داخل كل من الجماعتين.يضاف إلى هذا ازدياد وتيرة التوترات بين حكومة إقليم كردستان من جهة وبين الحكومة المركزية والحكومات المحلية الأخرى بسبب النزاعات حول الأراضي والثروة النفطية والصلاحيات الدستورية والسياسية، وفي هذا الإطار جاءت مواقف رئيس الوزراء نوري المالكي بشأن ضرورة تقوية الدولة المركزية ورفضه للديمقراطية التوافقية ودعوته لحكم الأغلبية ولنظام رئاسي بدل النظام البرلماني الحالي لتذكي مخاوف الأكراد والسنة من نوايا قد تكون مضمرة لدى الشيعة لفرض نظام حكم يفرضون سيطرتهم عليه. ويقول الخبراء إن استمرار حالة القلق الإقليمي من تداعيات الوضع العراقي وما يرتبط بذلك من تدخلات من دول الجوار من المتوقع أن تزداد مع تفاقم الحالة الصراعية الناشئة بسبب تفاعلات الدور الإيراني في ملفات المنطقة والسيناريوهات المتعلقة بالحوار الأمريكي الإيراني، و لقد انعكس كل ذلك في عودة أعمال العنف والإرهاب في بغداد وعدد من المحافظات والمدن العراقية في الفترة الأخيرة مما ينذر بنهاية حالة الاستقرار الأمني التي تحققت خلال عامي 2007 و2008 والتي ثبت أنها لم تكن سوى حالة شديدة الهشاشة، وتفتقد إلى الكثير من المقومات التي تسندها لكي تتحول إلى حالة اجتماعية وسياسية صلبة ودائمة. إن اغلب المؤشرات تنحو لتغليب احتمالات التدهور الأمني خلال الأشهر القادمة مع اقتراب مواعيد انتخابات مجلس النواب المقررة في ديسمبر القادم وتقديم الانسحاب الأمريكي إلى فترة مبكرة بعد حوالي عام، مما سيفتح المسرح العراقي على مشاهد أكثر سخونة. ملفات شائكة على طريق المصالحة الوطنية إن إحدى التحديات التي تواجه عملية المصالحة وخاصة أن العراق لا يزال يعاني من تأثيرات العنف والإرهاب، هي ضرورة كسر حلقة العنف والقضاء عليه بغية فتح الباب أمام حلول تفاوضية، وهي مهمات تتطلب كمقدمة العمل على مسارين، أولهما السعي لتضميد جراح الأم الماضي وإبداء الاستعداد لتقبل المسؤولية المشتركة عن أعمال العنف.، والثاني هو البدء في إظهار بعض إجراءات بناء الثقة المهمة تمهيدا لعملية الحوار الوطني ومن ثم المصالحة، غير انه هناك ثلاث قضايا رئيسية ينبغي لأية عملية مصالحة وطنية عراقية أن تعالجها في سبيل تحقيق عملية توافق وطني حقيقية وهي؛ ملف حزب البعث، والطائفية، والبعد الإقليمي وتدخلات دول الجوار. خاصة وأن معظم مشاكل العراق الحالية، ومن ضمنها استمرار العنف وغياب الأمن وانعدام الاستقرار، وتعثر العملية السياسية والبناء الديمقراطي، وهيمنة القوى الفئوية واحتكارها للسلطة وللمعارضة، وتغول الفساد الإداري والمالي، وانهيار منظومات القيم الاجتماعية، وتعزز النفوذ الإقليمي، تعود لاستمرار تلك القضايا دون حل، يذكر أن أبرز أسباب فشل جهود المصالحة السابقة هو أنها عجزت عن تناول ومعالجة القضايا الرئيسية تلك بالجدية اللازمة مما جعلها تدور في حلقة طويلة مفرغة. وتأتي ضرورة معالجة ملف ''حزب البعث'' على رأس جدول أعمال عملية الوفاق الوطني بعد أن ثبت خلال السنوات الماضية أنها تشكل العقبة الرئيسية بوجه المصالحة، بسبب حالة الاستقطاب التي خلقتها بين الفرقاء العراقيين، بين رافضين تماماً لأية حلول تتيح للحزب العودة إلى الحياة العامة والاستمرار بعملية اجتثاثه ومعاقبة مرتكبي الجرائم من أعضاءه السابقين، وبين من يصر على عودته للعمل السياسي وإعادة كل قياداته إلى مواقعهم السابقة.وتشكل هذه المواقف خلافات مجتمعية شديدة الحدة لم تتمكن الإجراءات التي اتخذت لحد الآن، سواء التي جاء بها الدستور، أو قانوني اجتثاث البعث والعدالة والمساءلة من حلها، كما لم تقدم خلال عملية الحوار الدائرة بشأن المصالحة مقترحات واقعية يمكن من خلالها التوصل إلى حلول وسط ترضي الأطراف المعنية جميعها، وليست مجرد اتفاق محاصصة آخر يميع القضية الأساسية، ألا وهي تحقيق العدالة لضحايا البعث وإنصافهم للمعاناة التي تكبدوها، من ناحية، وتعبيد الطريق نحو إقامة عراق جديد دون أحقاد وضغائن، من ناحية ثانية. و إذا كانت المشكلة الطائفية تمثل عموماً إحدى العقبات الرئيسية التي تقف حجر عثرة أمام عملية بناء الدولة الوطنية في الدول والمجتمعات المتنوعة الطوائف والإثنيات والخارجة من عهود الاستعمار والصراعات والحروب الأهلية، كونها تمنع تحقيق التجانس الاجتماعي والإجماع الوطني، أو حتى الوفاق السياسي، فإنها كانت السبب وراء استمرار حالة الاحتقان الطائفي التي أوصلت العراق إلى مشارف الحرب الأهلية مرات عديدة خلال السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي. ولقد أثبتت تجارب السنوات الماضية أنها كانت أيضا إحدى الأسباب الجوهرية وراء فشل التوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية تنهي إلى الأبد الأزمة الوطنية العميقة وتفسح المجال لجهود إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس سليمة من الشراكة والعدالة والمساواة. كما بينت تجارب السنوات الست الماضية أن أحد أسباب استمرار الأزمة العراقية هو التدخلات من قبل دول الجوار بسبب الامتدادات الإقليمية للوضع العراقي، سواء بسبب الأبعاد الإستراتيجية المتمثلة بالموقع الذي يحتله العراق داخل الإقليم، أو بسبب الارتباطات الدينية والمذهبية والقومية العابرة للحدود مع دول الجوار أو بسبب المنافسة بين القوى الإقليمية على الهيمنة على المنطقة، وبقدر ما يتعلق الأمر بعملية المصالحة الوطنية في العراق فان هذه التدخلات تشكل عقبة كأداء ورئيسية في طريق الوفاق الوطني لأنها تجري بهدف التأثير، أو حتى تغير نتائج أي عملية مصالحة، قد تعتقد دولة معينة، أو مجموعة دول، أنها ضد مصالحها أو أنها تخدم مصالح طرف إقليمي آخر، كما هو عليه الأمر في الاتهامات الموجهة إلى إيران الشيعية بأنها تسعى لمد نفوذها في العراق على حساب الجوار العربي السني، أو الاتهامات الموجهة إلى بعض دول الجوار العربية بأنها تؤوي وتساعد جماعات المقاومة المسلحة، أو أنها تغض النظر عن تسلل الجماعات الإرهابية إلى العراق. وإذا كانت التأثيرات والتدخلات والضغوط التي تمارسها دول الجوار تفرض شروطا مقيدة على عملية المصالحة الوطنية العراقية وتصعب مهمة إنهاء الأزمة الداخلية فان الحسابات الواقعية تفرض على العراقيين القبول بالمصالح الشرعية لهذه الدول والإقرار بالمخاوف والهواجس التي تنتابها من انعكاسات الوضع العراقي وخاصة التهديدات التي تمثلها لأمنها القومي مما يحتم ضرورة العمل المشترك والتعاون سوية في هذا المجال في إطار من الاحترام المتبادل والحفاظ على المصالح المشتركة، وإذا كانت هناك ضرورة قصوى لموقف عربي بناء وقوي يحافظ على العراق وعلى المصالح العربية في العراق، بسبب العمق الاستراتيجي الذي يشكله كل منهما للطرف الآخر، فان الواقعية السياسية والظروف الضاغطة التي تمر بها المنطقة تحتم أن تتم هذه المحاولات عبر إشراك إيران من خلال آليات محكمة ومن خلال صك ضمانات دولية لمنع أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية العراقية وحماية العراق من التهديدات الآتية من الخارج. ايران والعراق ..حتمية تولدت عن ارث تاريخي وجوار جغرافي عندما سئل أحد الخبراء الألمان المتخصصين في الشأن العراقي فولكر بيرتيز عن ضرورة إشراك إيران لتحقيق الاستقرار في العراق ، قال نعم هذا صحيح من الضروري إشراكها فهناك تأثير إيراني، وأوضح الخبير ان هذا هو ما اعترفت به إدارة جورج بوش بشكل غير مباشر، فمنذ فترة طويل تعقد مؤتمرات دورية ل ''لدول الجوار العراقي''، تشارك فيه إلى جانب الحكومة العراقية، كل الدول المجاورة للعراق، بما فيها أيضا إيران، علاوة على الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول مجموعة الثمانية. وفي هذا السياق حدثت اتصالات، أيضا في عهد بوش أيضا، بين ممثلي الحكومتين الأمريكيةوالإيرانية في العراق. ومن المعروف أن هناك بعض المشكلات، مثل الحدود والتهريب، التي يتوجب الحديث حولها. والواقع التاريخي للعلاقة بين البلدين يشهد بأن فترات الوئام بينهما أقل بكثير من فترات التوتر بل والصدام الذي تراوح بين الحروب الإعلامية وقطع العلاقات إلى الحروب المباشرة والتي كان آخرها حرب الثماني سنوات في القرن الماضي والتي أخذت كثيرًا من مقدراتهما بل ومن مقدرات المنطقة بأسرها وتركت آثارًا خطيرة وسلبية على العلاقة بين البلدين بحيث ظل كل طرف يشك في نوايا الطرف الآخر تجاهه، وبالتالي يصبح قيام علاقة طبيعية بين بلدين جارين أمرا صعبا. وقدر كل من البلدين الجغرافي أنهما متجاوران وكل منهما يحمل ثقافة تتنافس مع ثقافة الآخر وربما تسعى كل منهما إلى التغلغل في الآخر، ومن سوء الحظ التاريخي للعراق أنه وقع بين إمبراطوريتين متنافستين هما: الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية العثمانية، ووصل التنافس فيما بينهما إلى درجة الحروب المسلحة، والتي كانت تدور رحاها على أرض العراق ويدفع ثمن تلك الحروب الشعب العراقي من دمائه ومقدراته، وأسهم ذلك كثيرًا في زيادة المشاكل بين الجارين العراق وإيران وتراكمها، وأصبحت هناك العديد من القضايا المعقدة بين البلدين، يقف كلاهما عاجزًا عن الإسهام في التوصل إلى حل بشأنها، ومن ضمن هذه المشاكل الرئيسية مشكلة رسم الحدود بين البلدين. فالحدود بين العراق وإيران رسمت بموجب ميثاق سعد آباد عام ,1937 وبموجب هذا الميثاق وقع شط العرب ذلك الممر المائي الهام ضمن الحدود العراقية بحيث كان الخط الحدودي بين البلدين يمر شرق هذا الممر المائي، وحاول شاه إيران مرارا إعادة رسم الحدود بحيث يقتسم مع العراق السيادة على هذا الممر، لكن كافة الحكومات العراقية كانت ترفض هذا المطلب؛ فكانت إيران من أجل الضغط على العراق لتنفيذ مطالبه تقوم بدعم الجماعات العراقية المعارضة، وفي مقدمتها الحركة الكردية في الشمال وجماعات المعارضة الأخرى والشيعية بالذات، وفي المقابل كانت الحكومة العراقية تقوم بالأمر ذاته، ولكن بدرجة أقل؛ فاحتضنت على سبيل المثال جماعة مجاهدي خلق التي يتزعمها مسعود رجوي. الكثير من الأدلة والشواهد التاريخية تبين أن العراقية الإيرانية بالفعل تركة ثقيلة بحيث إن مجرد عدة زيارات تبادلية بين مسؤولين في الدولتين وصدور تصريحات دبلوماسية متفائلة فيما بينهما لن تؤدي إلى حل مشاكل ملفات هذه التركة، ولذلك تنتاب المرء الدهشة لدى متابعة التصريحات العراقية التي أعقبت زيارة رئيس جمهورية العراق إلى إيران وزيارة رئيس مصلحة تشخيص النظام في إيران ورئيس جمهوريتها الأسبق هاشمي رفسنجاني إلى العراق، فقد أثارت الزيارتان ضجة كبيرة في الأوساط العراقية، واعتبر الحزب الإسلامي العراقي من خلال بيان صدر عنه أن زيارة رفسنجاني للعراق تمثل إهانة للشعب العراقي وتدخلا سافرا في شأنه الداخلي، فيما اعتبر البعض الآخر أنها زيارة لا قيمة لها؛ لأن رفسنجاني ليس صاحب قرار على أي درجة في إيران، وأن الوفد المرافق له كان نصفه من النساء والنصف الآخر من عيون مخابراتية للنظام الإيراني، والزيارة وفقا لمفهوم هؤلاء هي مجرد زيارة دينية للعتبات المقدسة في العراق ومجرد رسالة مجاملة من شخص إيراني ليس صاحب قرار. وبعد سقوط النظام العراقي ازداد الملف تعقيدا، فلقد كان من المنطقي أن تتحسن العلاقات بعد سقوط النظام المعادي لإيران، إلا أن التعقيدات الجديدة أخذت مسارا آخر، فمعظم النخب العراقية التي تصدرت المشهد السياسي العراقي بعد السقوط كانت إيران الحاضنة لها في فترات معارضة النظام السابق، وبالتالي أصبح الباب مفتوحا أمام إيران للتغلغل داخل الجسد العراقي في ظل الفراغ الذي حدث بالعراق بعد سقوط النظام السابق، ولم يكن هناك سوى إيران لملء هذا الفراغ في ظل غياب عربي شبه كامل، وقامت إيران بدور نشط وفعال داخل العراق. وفي هذا الصدد، يجوز القول إنه بدون بحث الأطراف الخيرة من الجانبين في المسائل التالية، فلن يمكن حل هذه التركة المثقلة، وهذه المسائل هي، المشتركات والاختلافات بين الدولتين، وكيف يمكن تحجيم الاختلافات وتدعيم المشتركات.