عندما تصبح وسيلة النقل التي تعد في الأصل نعمة خطرا يهدد كل مواطن في أمنه وحياته، وحينما تتحول المركبة من وسيلة للراحة والرفاهية في التنقل إلى آلة تحصد الأرواح وتسبب العاهات والإعاقات وتنشر الرعب عبر طرقات الوطن، فاسأل عن السبب؟ سجلت مصالح الدرك الوطني لأمن الطرقات خلال السنة الجارية 85711 حادث مرور خلف 2961 قتيل و17102 جريح أي ما يعادل 9 قتلى و211 جريح في اليوم، وهو رقم مخيف ويدعو لدق ناقوس الخطر خاصة أنه في ارتفاع وتزايد مقارنة بالسنة الفارطة، وتعد ولايات الشمال أكثر تسجيلا لحوادث المرور بنسبة 44.68 ٪ مقارنة بالعدد الاجمالي لحوادث المرور المسجلة. وقد سجلت لهذه السنة كذلك وفاة 882 إناث و4041 ذكور تتراوح أعمارهم ما بين 4 سنوات وأكثر ويرجع سبب هذه الحوادث أولا للسائقين جراء الأخطاء التي يرتكبونها كفقدان السيطرة على المركبة نظرا لحالة سكر أو السرعة المفرطة أو التجاوزات الخطيرة، إضافة إلى ذلك حالة الطرقات والمركبات المهترئة. مدارس تصنع إرهاب الطرقات عوض تعليم السياقة لا يكاد يخلو حي أو زقاق من أزقة العاصمة من وجود مدارس لتعليم السياقة، هي لافتات توضع في أعلى المحلات تتخللها ملصقات من إشارات المرور، قد تجد في حي واحد من ثلاثة إلى أربعة مدارس في آن واحد يغويك مظهرها الخارجي من نظافة وتفاصيل أنيقة وترحاب صاحبها، غير أن العديد من هذه المدارس ومعلميها لا يهمهم أرواح الناس قدر ما يهمهم كسب المال والربح السريع أو ما يسمى ''بالتشيبة''. انتقلنا إلى حي المدنية وهو أحد الأحياء الشعبية التي تكثر فيها مثل هذه المدارس، قابلنا بلقاسم وزوجته نعيمة صاحب مدرسة السياقة ''نسيم'' الذي صرح لنا قائلا: ''لا يمكن الانكار أن المسؤولية الأولى حيث تقع حوادث المرور تعود أولا على معلمي السياقة، خاصة وإن كانوا لا يتمتعون بكفاءة عالية وخبرة كافية للقيام بذلك. فمع الأسف اليوم نرى أن الكثير من المتقاعدين فضلوا التطاول على القانون وإعطاء دروس خصوصية في السياقة بسيارتهم الخاصة جاهلين ما قد ينجر من وراء ذلك من آثار على أنفسهم قبل غيرهم فهمهم الوحيد هو اشغال أنفسهم بعمل يكسبون من وراءه أجرا زائدا على أجرة تقاعدهم التي، وحسب الكثير منهم، لا تكفي لتغطية جميع مصاريف المنزل، متناسين بذلك كبر سنهم وضعف بصرهم. فأنا لو لم أكن، يضيف السيد بلقاسم، مؤهلا لفتح مدرسة لتعليم السياقة وأحمل على عاتقي مسؤولية أرواح الناس لما أقدمت على هذه الخطوة خاصة ونحن في وقت غاب ضمير الناس وأصبحوا يتعاطون الرشوة ولا تهمهم النتيجة. زد على ذلك وساطة ابن فلان وفلان تؤهلهم إلى الحصول على رخصة السياقة من الوهلة الأولى''. وفي تدخل للسيدة نعيمة في هذا الموضوع تقول: ''في إحدى المرات تنقلنا إلى عين النعجة لإجراء امتحانات السياقة، شهدت على حادثة وقعت في إحدى المدارس المتواجدة في بئر مراد رايس، حيث تقدم المدرس وقد وضع عملات في ظرف بريدي داخل دفتر للامضاء وتقدم معه المترشح الذي ما لبث دقائق عند المهندس حتى خرج وعلامات الفرح بادية على وجهه فأخذني الفضول وسألته كيف كان الامتحان فأجابني بسرعة لقد دفعت التشيبة لأتمكن من الحصول على رخصة السياقة ولو لم أفعل لبقيت شهورا أخرى أذهب وأجيء، عكس مترشح آخر الذي خرج من امتحانه وعلامات التذمر والخيبة بادية على وجهه فسألته عن النتيجة فقال أنا لا أملك الوساطة لست من أصحاب الكبار أو ابن مسؤول وأملك المال لأرشي به أصحاب الامتحان، لكن ما عسايا أن أقول أعيد الامتحان و''كل عطلة فيها خير''. تضيف نعيمة ذهلت لهذا الأمر فاتجهت إلى معلمه وسألته باعتباره زميلا لنا في المهمة عن الحادثة التي وقعت لتوها فأجابني بكل استهزاء: أنا لا أعتبر هذه النقود رشوة بل هي حق قهوة وهي من حقي وأنا لم أطلب من المترشح شيئا بل هو أعطاني إياها''. وأنا أعتبر، تقول نعيمة، هؤلاء الأشخاص باعة الموت يمارسون مهنة تعليم السياقة وهي في الحقيقة مهنة الذهاب إلى الموت، غير مبالين بغيرهم بل المهم عندهم كسب المال وإشغال النفس''. تزوير الشهادات الطبية للحصول على رخصة السياقة من أخطر وأعظم الأمور التي أصبحت تحدث والتي تتسبب في حوادث مرور خطيرة يروح ضحيتها الكثيرون، تزوير الشهادات الطبية رغم معرفة المترشحين بعيوبهم الصحية، وهي حالات كثيرة اخترنا منها حالة لمياء التي روت لنا حادثة وفاة أخيها في حادث سيارة مريع أرداه قتيلا رغم محاولة الأطباء إنقاذه تقول: ''كان أخي ضعيف البصر خاصة بعينه اليسرى وذلك لتعرضه في صغره لحادث في عينه إثر لعبه مع أقرانه، ومع ذلك أصر على امتلاك رخصة سياقة فقام بتزوير الشهادة الطبية حيث وضع مكان الإعاقة عبارة يرى 01 / 01 في حين تؤكد الشهادة الطبية السليمة إعاقته وضعف بصره فهذا التحايل الذي قام به كلفه حياته''. وأمثلة من قاموا بتزوير الشهادات الطبية كثيرة دليل على ذلك ما وجدناه في أحد المستوصفات حيث قابلنا ''منير'' الذي قال إنه مصر على الحصول على رخصة السياقة وذلك لأن جميع أصدقائه يمتلكون واحدة ولكن بسبب مرضه بالصرع المفاجئ عطل له حلمه فقال: ''لما قصدت الطبيب المحلف رفض تدوين المعلومات بالشهادة لكن أنا متأكد من أن أطباء المستوصف سيقدمون لي الشهادة، وهذا لغياب الفحص الدقيق وعدم توفر إمكانيات المعاينة وبالتالي لن يتفطنوا لمرضي''. أما فاتح وهو وجدناه في الطابور يحمل شهادة ينتظر دوره سألناه عن سبب تواجده فكان رده: ''جئت لأملك الشهادة وأكمل ملفي الخاص برخصة السياقة، وقد قصدت المستوصف لأنه لا يكلفني الشيء الكثير في حين الطبيب المحلف يطلب الكثير ولا يقبل الرشوة في حال ما إذا اكتشف عيبا صحيا في المترشح''. منير وفاتح عينة فقط من أولئك الذين فضلوا التباهي برخصة السياقة والحصول عليها بأية وسيلة، حتى ولو على حساب حياتهما. تعديل القوانين وضرورة تفعيل دور الجمعيات التحسيسية للحد من حوادث المرور في هذا الصدد توجهنا إلى المحامية العياشي سعيدة، التي صرحت لنا قائلة: ''لقد صادقت الحكومة مؤخرا على بعض التعديلات التي أدخلت على قانون المرور، حيث سيتم تسليط أقصى العقوبات من غرامات مالية وعقوبات بالسجن المرحلي واستجواب أصحاب المدارس وإجراء التحقيقات مع المهندسين المشرفين على امتحان السياقة. كما وجب الحد من آفة الرشوة في مدارس السياقة التي أصبحت سببا في تفاقم حوادث المرور وحصد آلاف الموتى سنويا، زد على ذلك تفعيل دور الجمعيات التحسسية التي أصبحت قليلة وغير كافية للتحسيس والتوعية، فرغم أهميتها في التحسيس بخطورة ظاهرة حوادث المرور إلا أنها تبقى مهمشة من طرف الدولة والمجتمع. لهذا وللحد من هذه الظاهرة وجب على الهيئات المختصة تكوين لجنة وطنية همها مراقبة أصحاب هذه المهنة من ممتحنين ومدارس تعليم السياقة لترقيتها وتطويرها. فلا يمكن إلقاء اللوم دائما على السائق في حوادث المرور، بل يجب أن نلتفت إلى من أعطاه تلك الرخصة. هل المدرسة التعليمية فعلا كفأة أم أنها وقعت رخصة سياقة نهائية لدخول مدرسة جماعية إرهابية طرقية.