''علم الله نبينا محمدا وأدبه ليعلم به العرب ويؤدبهم، وعلم العرب وأدبهم بمحمد كي يعلم بهم الناس كلهم، ولتواجه الإنسانية عصرا من الاكتمال العقلي والفضائل النفسية يرفع مستواها ويجعلها أرقى، وأدنى إلى مرضاة الله عز وجلس.. تلك كانت كلمات العلامة الشيخ محمد الغزالي وتصوراته، رحمه الله، لقيمة الأمة الإسلامية، أو الأمة الأستاذة كما يحب أن يصفها، وذلك في إحدى حلقاته التراثية التي أذيعت منذ سنوات طويلة على شاشة التلفزيون الجزائري، والتي تعيد ''مدارك'' نشرها خلال هذا الشهر الفضيل، شهر القرآن. شاهد الحلقة كاملةوهذا التقرير يبرز أهم خواطر هذا العالم العبقري المجدد حول تلك القيمة ''الأستاذية'' التي يتوق الجميع إلى رؤية أمتنا متمثلة بها، فالرجل يرى أن تصور ''الأمة الأستاذة'' مستقى من آية كريمة تمثل حسب تعبيره ''وسامًا إلهيًا دالا على شرف أمة الإسلام''، وهي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78]. ويقول: ما يستطيع أحد أن يقول إن صاحب الرسالة الخاتمة قصر في تبليغ رسالته، لقد وصل القول للعرب وتعهدهم قرابة ربع قرن حتى جعل منهم الأمة الأولى في العالم، لا بنسب ولا بحسب ولكن بما تقدم للإنسانية من إيمان بالله ومن حب للخير ومن إقامة للعدل. وانطلاقًا من هذه الرؤية، يبدي الغزالي تعجبه من ادعاء اليهود أنهم شعب الله المختار وأن لهم عند الله مكانة لا تعدلها مكانة أمة أخرى، ومستندهم في ذلك أنهم أبناء الأنبياء، فهم ينتسبون إلى يعقوب الذي أخذ اسم التشريف ''إسرائيل'' وهو حفيد أبي الأنبياء إبراهيم، وماداموا أبناء الأنبياء فإن لهم حظوة عند الله وينبغي للبشر أن يخضعوا لهم وأن يكونوا لهم تبعا. ويؤكد أن هذا باطل، ''فكم من أب عبقري نسل أولادا تافهين، وكم من أب صالح كانت له ذرية لا خير فيها''، مستدلا بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26] . قلة مهتدية وكثرة فاسقة. وينتقل الغزالي بعد ذلك إلى الحقيقة الساطعة بقوله: إن الأمة التي اصطفاها الله وورثها كتابه ''القرآن الكريم''، هي الأمة الإسلامية، اختارها لا لنسب ولكن لكي تؤدي رسالة نافعة للناس ترفع مستواهم وتزكي سريرتهم، لأنها رسالة الإيمان والخير والحق والعدالة والإحسان، تنزلت على قوم لهم خصوصية نابعة من قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32]. ويتابع: إن هذه الأمة تمثل رحمة الله للعالمين، فكتابنا ينصف أهل الفقر من أهل الغنى وأهل الذل من أهل الطغيان، ونحن نقدم للناس الحق كما جاء في كتابنا نقيا يتواءم مع الطباع النقية والفطر الحسنة. غير أن تلك الحقيقة لم تمنع شيخنا الغزالي من التساؤل: هل أدت أمتنا رسالتها؟ هل علمت الناس كما علمها نبينا؟! وهل نحن نستحق أن نكون شهداء على الناس جميعًا كما أخبرنا الله عز وجل في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]؟ وإذا لم نكن حاليا أهلا للشهادة على باقي الأمم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد علينا، فهو قبل أن يموت ويرحل إلى الرفيق الأعلى، قال للناس: (اللهم قد بلغت اللهم فاشهد)، وأقر بذلك المسلمون. وبنبرة لا تخلو من الأسى يقول الغزالي: لكن العالم لا يستمع إلينا، ولا يعرف عنا إلا القليل، فنحن ظلمنا أنفسنا، وظلمنا رسالتنا التي لم نؤدها كما يجب، لغياب مفهوم ''الأمة الأستاذة'' وخصائصه عنا. وبعد تشخيص الداء يصف الغزالي الدواء، قائلا: إنك لن تكون أستاذا إذا كان مستواك العلمي أضعف من مستوى من تكلمهم، وإذا كان من تخاطبهم أزكى سريرة أو أدنى من العدالة منك، لذا يجب أن ترتفع إلى مستوى تؤخذ عنك فيه الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، وتجعلك شمعة مضيئة في ظلمات الليل البهيم. ويؤكد الغزالي أنه لكي نكون أهلا لرسالتنا، فإنه علينا أن نعرف أننا أمة حضارة، ولا يليق بأمة الحضارة أن توصف بأنها أمة أمية، فبعض المسلمين لجهلهم بمعنى الأحاديث نجدهم يقولون: نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، ويحسبون أن معنى هذا الحديث بقاء هذه الأمية إلى قيام الساعة، وهذا، على حد وصف الغزالي، جهل عريض، وخطر على كياننا المادي والأدبي.