الظاهر أن وزير خارجية مصر أبو الغيط قد أعاد حساباته مستعملا آلة حاسبة دقيقة؟ وربما يكون قد تلقى مساعدة في ضبط حساباته من أشخاص ليسوا بالمرة على علاقة ببيت الرئيس مبارك، إذ كيف يعقل أن يتوصل فجأة لاكتشاف رهيب مفاده أن الجزائر مفيدة لمصر وأن المصريين الذين غادروا الجزائر بتحريض وتسخين من المصريين أنفسهم أبدوا رغبة في العودة. والأدهى أنه اعترف أخيرا بأن مصر تتجه للتهدئة دون أن يوضح عن أية مصر يتحدث، هل يقصد الوزير''مصر'' التي شتم أبناء رئيسها كل رموز الجزائر دفعة واحدة بالجملة وبالتجزئة وبالتفصيل؟ هل يقصد مصر التي دفعت سلطتها اتحاداتها وفنانيها وعلمائها وكل أطيافها لمقاطعة كل ما هو همجي جزائري وغير متحضر؟ المهم أن الوزير أبو الغيط متفائل ووساطاته ذات الاتجاه الواحد متفائلة أيضا وبكلمات منمقات سيكون الطرف الجزائري في اليد، وعصفور في اليد خير من لا شيء حتى وإن كان عصفورا ''مهزهقا'' ومشتوما. هل بهذه البساطة تأخذ مصر الرسمية- إن كان هناك أصلا ما نسميه مصر الرسمية- الأبعاد الحقيقية لأزمتها مع الجزائر؟. الحقيقة أن الحملة الشرسة التي تلت مباراة كرة القدم التي جمعت بين الفريقين الجزائري والمصري وما أعقبها من تداعيات عنيفة ومشينة كشفت عن مفارقات غريبة تدعو لمجموعة من الوقفات التي يمكن اعتبارها منارات مضيئة في طريق مستقبل العلاقات بين البلدين سواء تعلق الأمر بالجزائر الرسمية أو الشعبية. وأول هذه الإشارات التي قاربت الضوء الأحمر هي العمالة المصرية في الجزائر إذ شكلت على مدى الأزمة المفتعلة في الإعلام المصري حصان طروادة الحقيقي، وذهبت بعض وسائل الإعلام المصرية إلى اعتبارهم رهائن في الجزائر، وكثفت كل الأطراف المصرية بمختلف مشاربها نداءاتها المطالبة بتوفير الحماية والأمن لهذه ''القنبلة الموقوتة'' التي بدا واضحا للعيان أنها كانت وستكون على الدوام ورقة ضغط تستعمل في مثل هذه الظروف ويستدعى بشأنها السفير الجزائري ''إعلاميا'' كلما اتصل شاهد زور ببرنامج فاشل في تلفزيون رديء. ولابد أن تكون السلطات الجزائرية قد توصلت لهذه الاستنتاجات واستحضرت في مثل هذه الحالة المثل المعروف''الباب اللي يجيك منو الريح سدو واستريح''، ولعل الجزائريين أولى بتلك المناصب أو أي رعايا آخرين لا يشكلون عبئا وورقة لعب أثناء الأزمات سواء الحقيقية أو المفتعلة . النقطة الثانية تتجلى في طبيعة الاستثمارات المصرية ومدى انعكاساتها حقا على الاقتصاد الجزائري ومردودها في سوقي المال والأعمال، فقد تم من ورائها حتى الآن تحويل ملايير الدولارات لمصر سنويا، وكل الجزائريين يدركون أن جزءا كبيرا من مصروفهم موجه لأرباب هذه الأموال الذين يستثمرونها في قنوات تلفزيونية تسبهم وتشتم تاريخهم وجغرافيتهم ورموزهم التاريخية والحالية، وهم بذلك مدعوون للتأمل في هذه المسألة ووضع حد للذهب الذي تبيضه الدجاجة الجزائرية، ولنا أن نتخيل رد فعل المصريين لو أن شركات جزائرية كانت مستثمرة عندهم في هذا الظرف الذي قاطعوا فيه بأمر من السلطة حتى الهواء الجزائري النقي... النقطة الثالثة تشير إلى حقيقة الاستفادة من الانفتاح الاقتصادي والثقافي على مصر بعد كل هذه السنوات، وقد شكلنا على مر الزمن سوقا لكل المنتجات الرديئة للفن السطحي الهابط الذي أسهم بشكل كبير في الإضرار بقيمنا وتربيتنا، والمصيبة أننا ندفع مقابل الرداءة ما يؤهلنا للاستثمار في تمويل الإنتاج الوطني والمغاربي وحتى السوري والخليجي للعطاء في مجال الفن ذي الرسالة الهادفة. النقطة الرابعة هي ضرورة الاستفادة من الموت الإكلينيكي للقاموس الدبلوماسي بين البلدين بكل ألفاظه فلم تعد لكلمات كثيرة مثل ''الأخوة'' و''المصير المشترك'' و''العروبة'' أية مدلولات وعلى الأقل بالنسبة للجزائريين إذ لا يقبل الجزائري ''الهمجي'' و ''غير المتحضر'' أن يكون من بين إخوته من يتطاول عليه مع أننا في الجزائر لابد أن ندرك كامل الإدراك أن الزبانية الذين سبوا الجزائر قيادة وشعبا سيقولون غدا في استدارة كاملة وبكل وقاحة و''صحة الوجه'' أن الجزائر شقيقة ومجاهدة وشعبها أخ ومضياف.. لقد بات جليا الآن بعد عاصفة الأزمة التي افتعلها المصريون أن التفكير في إعادة ترتيب العلاقات بين البلدين بما بخدم الجزائر يمر عبر خيار واحد لا أكثر، متمثل في التعليق الكلي والكامل للعلاقات لفترة تهدأ فيها النفوس والاقتصار على التعامل بممثلين على مستوى السفارتين في انتظار التصفية الكاملة للأمور المالية العالقة بين الجزائر وبعض المستثمرين المصريين في السوق الوطنية، واستبدالهم سريعا بالشركات الدولية التي لا تتأثر بنتائج المباريات الكروية وحتى الحروب. والأكيد أن الجانب المصري قد تفطن لهذه الخطوات وعرف بعد سكرة الغضب مقدار المجزرة التي ارتكبها في حق العلاقات بين البلدين وكان ضحيتها، فبدأ بمحاولة حلها وللأسف بخطوات خاطئة وطرق ملتوية تهدف إلى نسيان المشكلة عن طريق الالتفاف حولها وهو النمط الذي دأبت عليه مصر وتمقته الجزائر..