تتقاسم أغلب مناطق الوطن عادات وتقاليد مشتركة، حتى وإن كان يختلف السكان حول تسمياتها، فلكل ربع خصوصياته التي تميزه عن غيره، وكما انطبعت قرى ومداشر أرجاء الوطن بالعصرنة تاركة خلفها تقاليدها وسمات، هاهي اليوم مدنه تحن إلى بعضها وتسترجعها،مثلما هو شأن ''القربة'' أو ''الشكوة'' التي راحت تستعيد مكانتها في ولايات عدة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب. بعدما تخلى الجزائريون عن العديد من العادات والتقاليد الصحية المتوارثة جيلا بعد جيل على مر السنين، واستبدلوها بعادات أخرى واكبت موجة التقدم والعصرنة، فصاروا يفضلون التمتع مثلا بشرب المياه الباردة التي تؤمنها لهم التكنولوجيا بكبسة زر على موزع المياه بالثلاجة، التي تناسب جيدا الديكورات المتطورة والجميلة لمنازلهم وشققهم التي يتباهون بترتيبها، حسب أحدث صيحات الموضة في سوق الأثاث والأقمشة والمفروشات، على أخذ رشفة ماء بارد طبيعيا من ''القربة''، الاختراع الإنساني الذي خدمه لسنين طويلة، وتخلى عنه لا لشيء فقط لأنه لا يتماشى مع ديكور مطبخه أو قاعة طعامه، أو ليس من مقام ضيوفه نظرا لشكله التقليدي، عادت اليوم إلى واجهة الحياة اليومية بالمدينة حينما تبين لدى العامة الفوائد الصحية لمياهها. الشرق الجزائري حافظ لها على مكانتها بأغلب قرى ومداشر شرق الوطن وتحديدا ولاية باتنة بقيت ''القربة'' من بين الرموز الحضارية القليلة بالمنطقة، التي مازالت تحتفظ لها بمكانة خاصة لدى الأسر الباتنية الأصيلة، وعلى الرغم من التغير السريع في نمط الحياة الذي شهدته هذه الجهة، التي تميزت على مدى أجيال متعاقبة بصناعاتها التقليدية العريقة وخاصة تلك المتعلقة بالحلفاء والجلد والطين، فإن العلاقة الحميمية التي ربطت الأولين بالقربة ظلت قائمة إلى حد الآن ولم يتنكر لها الأبناء. و''القربة'' التي تخصص أساسا لتبريد الماء، هي وعاء من جلد الماعز يتم الاحتفاظ به كما هو دون تمزيقه بعد سلخ العنزة المذبوحة، مع ضرورة أن يكون الجلد للماعز، وليس لحيوان آخر، وإلا لن تصلح القربة، والسرّ في هذا الاختيار يكمن في الشعر الذي يكسو جلد العنزة والذي يساعد فيما بعد على الاحتفاظ بالماء الذي يوضع فيها عذبا حتى في فترات الحرّ. وصناعة ''القربة'' ليس في الشرق الجزائري فحسب، وإنما عبر جميع أرجائه كانت تعد من بين الأشغال المنزلية التي يجب أن تتقنها المرأة، ففي منطقة الأوراس مثلا، في الماضي وقبل الزواج، تتعلم الفتاة كل ما يساعدها فيما بعد على توفير بعض الأمور الضرورية للأسرة كالغزل ونسج الصوف وحياكة الألبسة وصناعة الزرابي والأواني الطينية، وصناعة القربة. وما يصطلح على تسميته ''القربة'' في بعض المناطق أو ''الشكوة'' في مناطق أخرى ليس فقط وعاء لجلب الماء وحفظه، وإنما ثلاجة طبيعية تقليدية صعبة التحضير، حيث تتجاوز مدة العملية الشهرين، فبعد غسل جلد العنزة وتنظيفه جيدا وإزالة الأجزاء الزائدة فيه تغلق الفتحات غير المرغوب فيها بخيط مشمع وتترك واحدة فقط هي فم القربة ثم يتم ملؤها بنبتة العرعار. وتعاد الكرة كل 10 أيام لخمس أو ستة مرات حتى يلاحظ بأن الجلد أصبح رقيقا، ثم تطلى من الداخل بمادة ''القطران'' وتترك لمدة معينة وبعدها تملأ بالماء الذي لا يشرب من المرة الأولى حيث يرمى في المرتين الأولى والثانية، بعد أن يغلق فم القربة، حتى لا يتسرب منها السائل إلى الخارج بقطعة من الجلد والخشب لتكون جاهزة للاستعمال بعد ذلك. والمحافظة على هذه الثلاجة الطبيعية سهل جدا، فهي تغسل فقط من الخارج من حين لآخر، لإزالة الأتربة العالقة بها بفعل الغبار، أما الماء الموجود فيها فيبقى صالحا للشرب لأيام عديدة، حسب تجربة الجدات مع إمكانية إضافة كمية قليلة من القطران للماء أو معالجة القربة في حد ذاتها مرتين أو ثلاث بمادة القطران ليحافظ ماؤها على نكهته الخاصة. مذاق مائها اجتذب العاصميين يتميز ماء القربة الذي يستهوي الكثيرين بمذاقه المميز ونكهته التي يغلب عليها طعم مادة القطران إلى جانب عذوبته واحتفاظه بدرجة برودة جد مقبولة، لاسيما وإن تم وضع القربة في مكان بعيد عن أشعة الشمس، أو رشها بالماء من فترة لأخرى. هذا ما دفع ببعض سكان العاصمة والمدن المجاورة لها من أصحاب المحلات إلى الإقبال على شراء ''القربة''، فأغلبهم من المحسنين الذين يريدون التصدق بالماء على المارة وأبناء السبيل، بتعليقها إما بمداخل محلاتهم مفضلين إياها على الصهاريج البلاستيكية والحديدية التي توفر منها الآن ما هي مزودة بمحركات كهربائية لتحافظ على الماء باردا وبصنابير لتسهيل الاستعمال. وهم بذلك في حرصهم على اقتناء ''القربة'' المعالجة بالقطران الذي يعد مطهرا طبيعيا، إنما يسعون لإتمام حسناتهم بتقديم مياه صحية تساهم في علاج بعض الأمراض، فمياه ''القربة'' تعد من أحسن المياه للمصابين بالقرحة المعدية فهي تضاهي المياه المعدنية في فوائدها. فصار يعمد الكثير من التجار وأصحاب المحلات التجارية، وحتى المقاهي عبر أحياء المدن الكبرى وأزقتها، كالمدنية، والقصبة أين تذوقنا البعض منها إلى وضع ''القرب'' أمام محلاتهم في أماكن ظل مغطاة بقطعة قماش مبللة لفائدة المارة الذين كثيرا ما يفضلون ماءها عن كأس ماء من الثلاجة، وهم يتقبلون دعوات الخير من طرف المارة خاصة كبار السن، حيث يعتقد الكثير منهم حسب ما توارثوه عن أجدادهم بأن ماء ''القربة'' صحي وذا نكهة خاصة لا يمكن مقاومته. ''القربة'' للماء و''الشكوة'' للبن هذا ما عرفناه ونحن نستقصي فوائد ''القربة'' وطرق صناعتها، فلقد صححت لنا مجموعة واسعة من كبار السن، الذين أكد البعض منهم بأنه لا زال يحتفظ ''بقربة'' بمنزله من باب التذكار، أن ''القربة'' هي التسمية التي تطلق على الوعاء الجلدي الذي يستخدم في حفظ الماء باردا ويتميز بنكهتي العرعار والقطران. أما'' الشكوة'' التي كنا نظن أنها نفسها ''القربة'' من باب الغرض منها، فتبين أنها لا تستعمل لنفس الغرض، بل لصناعة اللبن، فهي فعلا تصنع من جلد الماعز لكنها لا تطلى بالقطران ولا تعطر بالعرعار، فبعد ترويب الحليب وطبعا الحليب الطبيعي للماعز أو البقر، يفرغ داخل ''الشكوة'' التي تعلق في حامل خاص بها وسط البيت بكميات قليلة وتنطلق النسوة في رجه ذهابا وإيابا إلى أن يصبح لبنا، ويعرف ما إن جهز أو لا من خلال طبقة الزبدة التي تشكل على فوهة ''الشكوة''. وقيل لنا أن مذاق اللبن الذي يصنع داخل ''الشكوة'' لا يوجد ما يقابل طعمه من أنواع ''اللبن'' التي تصنع الآن في المصانع الحديثة. المغتربون يعرّفون ب ''القربة'' في الخارج حتى تبقى ذكرى عزيزة من الوطن تقاسمهم الحياة وتنسيهم بعدهم عنه، اعتاد المغتربون الجزائريون كل على طريقته، على أخذ تذكار معه قبل السفر يلجأ إليه كلما حن إلى عائلته ومنطقته، ومن بين الأشياء التي لها مكانة في قلوب المغتربين، ويصر بعضهم على أخذها معه نجد ''القربة''، فحتى إن لم يستعملها ليشرب ماءها طيلة أيام السنة فهو يحتفظ بها في ركن من أركان بيته كديكور، ويستعملها من الحين إلى الآخر عند استقباله ضيوفا أجانب ليعرفهم على تقاليد الوطن، وكعربون على حسن الضيافة بسقيهم من ماء ذي مذاق طبيعي مميز. يبدو أن القربة كغيرها من الصناعات التقليدية الأصيلة، والتي مازالت في حاجة إلى تثمين من خلال تشجيع تواجدها بالمناطق السياحية التي يزخر بها الوطن إلى جانب الأكلات الشعبية المشهورة بكل جهة، وتقديمها للزوار والسياح كموروث ثقافي وحضاري يتوجب المحافظة عليه في ظل الزحف المخيف للعصرنة التي ساهمت بقسط كبير في طمس العديد من العادات والتقاليد، استطاعت أن تحافظ على مكانتها في قلوب الكثيرين.