الحلقة الثانية: ممهدات المرجعية الدينية1 جاء في لسان العرب: مهد لنفسه يمهد مهدا كسب وعمل، والمهاد الفراش وقد مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته يقال للفراش مهاد لوثارته. وفي التنزيل: ''لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش'' والجمع أمهدة ومُهُد، يقال مهَّدت لنفسي ومهَدت أي جعلت لها مكانا وطيئا،وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وطريق ممهدة مذللة ومسهلة للمشي.2 وممهدات المرجعية الدينية هي الخطوات اللازم اتباعها من أجل بسط وتوطئة الطريق أمام هذه الفكرة لتصبح واقعا ملموسا وممارسة عملية في المجتمع الجزائري وغيره من بلاد الإسلام الممهد الأول: متانة جسور الثقة بين المفتي والمستفتي أهم ممهدات المرجعية الدينية متانة جسور الثقة بين المرجع الديني والناس الذين يفتي لهم أو يحكم بينهم أو يوقع لهم عن رب العالمين، وتظهر هذه المتانة جلية في شخص النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الذروة في العدالة والأمانة وإصابة الحق، لأنه ما كان ينطق عن الهوى وما ينبغي له ذلك وهذه المتانة تتحقق بعدة شروط أهمها: أولا: الالتزام قبل الإلزام وذلك بأن يكون المرجع )المفتي( ملتزما بما يدعو إليه قال الله عز وجل: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} الصف2و3 ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون : يا فلان ! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه » متفق عليه. قال الإمام النووي: ''كان مالك رحمه الله يعمل بما لا يلزم به الناس ويقول: لا يكون عالما حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس، مما لو تركه لم يأثم'' وهذه قمة الالتزام والورع ثانيا: رحابة الصدر، لأن ضيِّق الصدر منفِّر بطبعه، ولأن الإنسان المتشنج الغضوب سريع الانفعال لن يجد من المدعوين والمستفتين إلا النّفرة والإعراض، أما الحليم الذي يصبر على جهل الجهول وأذاه فهو الذي يفلح في تبليغ رسالته أحسن تبليغ، وينجح في استمالة الناس إليه، ومن الدلائل اللطيفة على ذلك ما رواه معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال : « بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت : يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم ! فقلت : واثُكْلَ أمِّياه ! ما شأنكم تنظرون إليَّ ؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يصمِّتونني، سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي ! ما رأيتُ معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال : « الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن » رواه مسلم ولولا حلم النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما فوقه حلم لبشر، ما طمع اليهودي في عدله. وقد صدق الله حيث قال: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران159] كيف لا وهو الذي كان مضرب المثل في الحلم والصفح والعفو عند المقدرة، وهي الصفات التي جعلت القلوب تهوي إليه والنفوس ترجع إليه مطمئنة إلى حكمه، ومما ورد في سيرته صلى الله عليه وسلم قبل بعثته رجوع سادة مكة وأشرافها إليه للحكم بينهم حين اختلفوا وتنازعوا فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة، وقد حكم بينهم بحكم أرضى الجميع وأطفأ جذوة النار التي كادت أن تشتعل. وبعد مبعثه يأتي الأعرابي فيتصرف بقلة أدب في المسجد فيَهِمُّ به أصحابه، فيشير إليهم أن دعوه وخلوا بيني وبينه، ثم يعلمه صلى الله عليه وسلم ويطيب خاطره حتى يخرج من عنده وهو يصدح بقوله: ''اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم بعدنا أحدا'' فيقول له صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا يقر على باطل أبدا- : '' لقد حجرت واسعا'' يعني رحمة الله عز وجل. ثالثا: سعة العلم والإطلاع لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن المسألة فيأتي بجوابها متصل السند بالله عز وجل ''يسألونك...قل'' ''يستفتونك...قل'' قال جمال الدين القاسمي: ''وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين ''قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين''4 قال ظافر القاسمي:''لا بد أن تكون الفتوى موصولة السبب إلى الله ، متصلة السند به، ولا بد للمفتي أن يلجأ إلى الله بشيئين لا يغني أحدهما عن الآخر في تعقب الفتوى واستلهامها من ربه تعالى: فأما الأول: فهو اللجوء الوجداني بملازمة التقوى وعمل الصالحات ومداومة الدعاء أن يهديه الله إلى الحق وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاة الليل ويقول'' اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم''رواه مسلم وغيره وأما الأمر الثاني: فهو اللجوء الذهني بطلب العلم عند الله تبارك وتعالى والتجرد لهذا الأمر تجردا يحفظه هو من عادية الضلال4 ويحفظ العلم من عوادي النسيان''6 ومما ثبت عن علماء السلف الأجلاء أن الواحد منهم لم يكن يتصدر للفتوى حتى يشهد له الجم الغفير من العلماء7 بأنه أهل لذلك، قال الإمام مالك رحمه الله: ''ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس.حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد.فإن رأوه لذلك أهلاً جلس.وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم إني لموضع لذلك''. 8ومما يدخل في هذا الباب بالنسبة للمرجع الديني في وقتنا الحاضر أن يكون حافظا لمذهب بلده بأدلته،8 فقيه النفس، متثبتا مما يفتي به، غير متمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأن يكون عارفا بلسان القوم الذين يفتيهم ومقاصد لهجاتهم ومرادات ألفاظهم، وأن يكفيه الحاكم ما همه من أمر دنياه حتى لا ينشغل بغير الفتوى ولا يتعرض للضغط والابتزاز قال الخطيب البغدادي: ''وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من بيت المال''10 قال الإمام ابن القيم: ''لما كان التبليغ عن الله يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات''11 قال ابن الصلاح: ''وشرط المفتي المجتهد في مذهب إمامه أن يكون عالما بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا- بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الإرتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصا عليه لإمامه بأصوله''12 رابعا: التمتع بالأدب الرفيع والخلق السامي لأن قليل الأدب وسيء الخلق لا ينفعه علمه فضلا عن أن يكون مرجعا للناس في أمور دينهم قال الشاعر: لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق وقال أبو الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم هنالك يستجاب ما دعوت ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم والمتأمل في سير المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يرى أن أخلاقه كانت تسبق أقواله، فلم يكن يدعو إلى خلق أو أدب إلا وهو ملتزم به أشد الالتزام، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاقه قالت: ''كان خلقه القرآن''. وبمثل هذا المنهج في التربية أحدث النبي صلى الله عليه وسلم التأثير الإيجابي في مجتمع جاهلي بنى أسباب وجوده على السلب والنهب والظلم والغش والربا وسيئ الأخلاق مما كان سائدا آنذاك، فاستتب له الأمر، وصلح له أمر الناس وانقادوا له في زمن قصير جدا وبطريقة بسيطة جدا، لا مناهج معقدة ولا مؤلفات مكدسة ولا بحوث متخصصة، لم يستعن بعلماء الاجتماع ولا بعلماء النفس وعلوم التربية، لم يحمل الناس على الالتزام بقوة السلطان وكثرة الأعوان ولا بالقوانين الردعية والعقوبات القاسية، بل كان منهجه بسيطا قائما على الدعوة والتربية بالقدوة الحسنة فكان له التمكين وأي تمكين! لقد قرت عينه بمجتمع بلغ الذروة في الأخلاق والقيم، وزاحم مجتمع الملائكة في الطهر والانقياد، فدانت لدينهم الملوك ودخل الناس في هذا الدين أفواجا ولسان حالهم يقول: إن دينا هذا حال دعاته لدين حق وصدق ومن حرمه فقد حرم الخير كله. الهوامش: 1- أصل هذا الموضوع مداخلة تقدمت بها بين يدي الملتقى الخامس حول ''المرجعية الدينية في الجزائر'' الذي أقيم بجامعة جيجل يومي 8/9 مارس 2010 والذي قامت بتنظيمه جمعية النجاح الثقافية والرابطة الوطنية للطلبة الجزائريين بالتنسيق مع مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية جيجل تحت رعاية السيد رئيس الجامعة، 2-ينظر لسان العرب ابن منظور مادة مهد 3- آداب الفتوى ص18 / 19 والمقصود بذلك الإكثار من فعل المندوبات في السر، وكذلك ترك بعض المباحات. 4- الفتوى في الإسلام جمال الدين القاسمي ص 32 5- الضلالة ثلاثة أقسام: ضلال الهداية والهوى والقصد ثم يقول محقق الكتاب: '' فلا نستغرب ما يحدث اليوم من كثير من أصحاب المناصب الدينية من انصرافهم عن جانب الحق ومنهم من جمع بين أنواع الضلالة السابقة كلها وإلا فما هذه الفتاوى التي نسمعها من كثير منهم لا نستطيع تفسيرها إلا بتفسير واحد هو أنهم ركنوا إلى أهل الفساد والغواية واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة 6- الفتوى في الإسلام جمال الدين القاسمي ص5 7- وليس مؤشر ذلك كثرة الأتباع من الدهماء ''لأن الاستفاضة والشهرة من العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس'' الفتوى في الإسلام ص103 8- ترتيب المدارك وتقريب المسالك القاضي عياض ص49 9- نقول ذلك لأنه لا قيمة لكلام العالم إن كان عاريا عن الحجة وخاليا من الدليل قال أبو حنيفة: ''لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا'' الفتوى في الإسلام ص10 10- آداب الفتوى ص40 11- إعلام الموقعين 1/ 10 12- الفتوى في الإسلام ص67