جئت اليوم أحدثكم في الأدب، وأخاطب فيكم العاطفة، وأزجي لكم الحديث عن امرأة خلدها البيان، امرأة ولدت سنة 1256 هجرية. وأنتم تعرفون ما كانت حال النساء في تلك الأيام، كن أسيرات الجهل وضيق الفكر واستبداد الرجل، فكان من أعجب العجب أن تنشأ فيهن شاعرة مجودة وكاتبة بليغة، فاقت أدباء عصرها، وسبقت في مضمار الرثاء العاطفي أدباء العصور كلها، وكانت واحدة جمعت عجيبتين اثنتين: أولهما أنها شاعرة مجودة. والمجودات في الشعر من النساء أقل من القليل، لا في العربية وحدها، بل في كل ألسنة العالم، والأدب العربي على طوله لم يعرف مئة من الشاعرات المجودات، على حين قد عرف عشرة آلاف من مجودي الشعراء. والثانية أنها نشأت في عصر تلك حال المرأة فيه. وأحب أن أنبهكم إلى أن الإسلام بريء مما أصاب المرأة، وأن التاريخ الإسلامي حافل بذكر العالمات الأدبيات من النساء في عصوره كلها حتى في العصر الماضي، وفي مكتبتي الآن أكثر من ثلاثة آلاف ترجمة لمن نبغ من نسائنا، وفي كتب الجرح والتعديل ذكر المئات من المحدثات اللائي كن أساتذة الرجال، وكثير من المحدثين عندما يذكرون أساتذتهم يعدون أساتذة ن النساء، وقد سمعتم في حديث الصالحية ذكر العشرات من العالمات في آل قدامة وحدهم، ولو حسبتم العالمات النابغات من نساء المسلمين الذين اعترف لهن الرجال وجلسوا بين أيديهن وأخذوا عنهن، وأمثالهن من نساء أمم الغرب كلها لرأيتم أنه ليس عندهم واحدة مقابل كل عشرة عندنا، ونسمع بعد ذلك من يقول: إن الإسلام هو الذي صير المرأة على هذه الحال. لا، ولكن الإسلام أمر بالعلم ودعا إليه، وأمر بأن تكون المرأة عفيفة شريفة محتشمة متسترة بعيدة عن مواطن الريب ومداعس الزلل، لأن العلم الذي لا يجيء إلا بذهاب الشرف خير منه الجهل. وبعد، فهذه الشاعرة الأديبة الكاتبة التي شقت الطريق لأترابها والتي سبقت زمانها، والتي كانت أعجوبة في بيانها هي السيدة (عائشة التيمورية) أخت العلامة المحقق أحمد تيمور رحمه الله، وعمة رائد الأقصوصة العربية ابنه محمد تيمور وأخيه كبير القصصيين المصريين اليوم محمود تيمور. نشأت في أسرة تركية غنية، فتعلمت القراءة والكتابة في القصر على طريقة بنات الأكابر، فتنبهت في نفسها الرغبة في المطالعة والإشراف على مجالس العلم في القصر، ولكن أمها أرادتها على ما كان من شأن أترابها الخياطة والتطريز، وأبت البنت إلا ما تميل إليه فطرتها، واستمرت المعركة حتى برز الأب اسماعيل تيمور فقال لها: دعي هذه البنت للعلم، وعليه بأختها ربيها كما تريدين، وأحضر لها المعلمين والمعلمات، فأخذت النحو والعروض عن فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية، وهذا يدلكم على أنه لم يخل ذلك العصر من عالمات وأزهريات. والصرف والفارسية على علي خليل رجائي، والقرآن والخط والفقه على إبراهيم تونسي، وحفظت عشرات الدواوين، وطالعت كتب الأدب حتى صارت تنظم بالعربية والفارسية والتركية، ولها دواوين فيها جميعا، ولم يكن يفوقها من شعراء عصرها إلا البارودي (ذاك أمة وحده) والساعاتي، ولها كتابة، منها المسجع، ومنها المرسل، ومنها البليغ، وهي أول من دعا إلى تعليم المرأة، ولها في ذلك مقالات وأشعار، وكانت تحبذ الحجاب، وترى أنه لا يمنع من العلم والأدب، ولها القصيدة المشهورة: بيد العفاف أصون عز حجابي وبفكرة وقادة وقريحة ما ضرني أدبي وحسن تعلمي ما ساءني خدري وعقد عصابتي ما عاقني خجلي عن العليا ولا عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت عاشت في سعة من العيش وإقبال، وربيت في العز والدلال، ولكن الدهر الذي لا يدوم على حال رماها بالنكبة التي تصدع قلوب الأبطال من الرجال، فكيف بشاعرة من ربات الحجال مرهفة الحس رقيقة القلب تعيش بالعاطفة والحب؟! أصابها ما لم تطق له احتمالا، كانت لها بنت اسمها (توحيدة)، جمع الله لها جمال الخلق وسمو الخلق، فياضة الأنوثة، ساحرة الطرف، بليغة النطق، مهذبة الحواشي، ما رآها أحد إلا أحبها، وبلغت ثماني عشرة سنة وتزوجت، فما مر على عرسها شهر حتى أصابها مرض مفاجئ فماتت. (يتبع)