كل المثقفين وأهل الفكر والقلم في بلدنا وفي عالمنا العربي عامة يتأوهون ويتأففون ضجرا وسخطا ونقمة على الراهن الثقافي .. راهن غارق في ركام الخراب .. راهن لا صنعة له سوى إنتاج الركود والمزيد من الركود .. المزيد من الخواء .. وإن حدث نشاط أو جرت تظاهرة هنا أو هناك فهي حتما ساقطة في نهايتها المظلمة .. وإن أشرقت ومضة هنا أو هناك فهي حتما آيلة للأفول والانطفاء .. الفوضى والخلخلة والقيم المقلوبة والأشياء الهاربة أبدا عن مكانها وأصلها .. كل ذلك صنع من مثقفينا حالة تذمرية .. توجعية متشائمة حد التفريط في الرسالة المنوطة بهم والتفرغ للتبكي والتشكي .. من راهنهم ووضعهم البشع .. فرط التوجع ألبس خطابهم ثوب اليأس والانسحاب والانهزامية .. ما جعله بارعا في افراز المرار والتبكي على حال منغمس في لا مبالاته .. حال ممعن في حاله .. مهووس بغبنه وترديه .. حال راض عن هجره للتطور والتغيير .. لا أحد طبعا يلوم أهل الثقافة والقلم أو يؤاخذ عليهم هكذا طبع .. نعم التذمر والتشكي صار طبعا مترسخا في كلامهم وكتاباتهم وسلوكاتهم ومواقفهم .. في وجوههم .. طبعا تمكن من لغتهم وخطابهم وفكرهم .. لكن اللامعقول واللامقبول ألا يفعلوا غير ذلك .. ألا يصدر منهم سوى ذلك . أن يدمنوا ذلك .. ذلك الذي أصبح على حساب ما هو لا زم وما هو ضروري ومطلوب بالنسبة لمن يفترض أنه شاعر بفيض انتماء للثقافة والفكر والإبداع ..التشبث بهكذا إفلاس وهكذا سلبية لن يخرجنا من وضع الانسداد والمهزلة الذي نحياه .. هو وهن صحيح .. هو عجز .. صحيح هو إحباط وألم نفسي وحضاري عميق .. لكن ما نفع الاستسلام وما نفع اتخاذ مواقف خائرة مهزومة سلفا .. ما نفع الاستقالة من كل جهد وإصرار على المواجهة ..على استنبات ومضة نور في أكوام الظلمة .. على استحداث فتحة في كثافة الانسداد الذي يحيط بنا .. على إيجاد نظرية نهزم بها هزائمنا .. .. ما عاد لأحد رغبة في أن يستمع لأناشيد مآسيه ومحنه ..التوق كله .. الرغبة كلها اليوم في الخروج من هكذا تعب .. في الانفلات من هكذا مأزق حضاري واقتصادي وثقافي وإنساني .. للتخلص من هكذا ارتباك من هكذا تأرجح ..من هكذا موات .. لتغير ونتغير ولنكتب من موقع المتيقن الواثق من أهليته للوجود في هكذا عالم .. من قدرته على أن ينخرط في شراكة فاعلة مع هذا العالم . عالم لنا معه حسابات كثيرة .. وأسئلة أكثر .. كيف نكون متصالحين مع واقعنا .. كيف تحتفي لا أقول بتخلفنا بل بوضعنا كأمة ترغب في التطور وتجهد لبلوغ مراتب أخرى .. كيف نظفر بقسط من الراحة .. كيف ننقذ أنفسنا من أنفسنا .. كيف نعيد اكتشاف ذواتنا وأهميتنا ونعي قيمتنا الفكرية والحضارية .. كيف نخلص أذهاننا من هذا العقم الناتج عن نظرية المقارنة.. عن التشبث بفكرة ''الركب تجاوزنا'' .. ليكمل الذين تجاوزونا نقدمهم ولننهض نحن بمصيرنا قدر توقنا للخلاص وللحياة .. لا أجمل ولا أنفع من مبدع يعمل على أن يكون إنتاجه باتجاه تحقيق جماليات أخرى ملائمة لطبيعة علاقتنا مع الواقع ومع يومياتنا وذوقنا وخصوصياتنا .. جماليات تجنبنا الوقوع في فخ المحاكاة أو الاكتفاء بلعن أنفسنا والتفنن في استحداث أقسى الصفات لواقعنا.