كل شيء كان جاهزا وصالحا ليجعل منه رائعة لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة، ربما ثقله بثقل فيلم ''سنوات الجمر'' للأخضر حامينة، أول فيلم عربي اختطف سعفة ''كان'' الذهبية... لم يكن ينقصه سوى اعتراف لجنة حكام المهرجان، لينال سعفة ذهبية مرصعة بآلام وأنين ملايين الجزائريين كونه أعاد صياغة معاناة الجزائر المستعمرة، لكن أطرافا لم ترد له التمام والكمال.. لأمور عدة، قد نذكرها لاحقا، على العموم فيلم ''الخارج عن القانون'' لبوشارب وما صنعه من ضجة إعلامية غير مسبوقة حتى قبل عرضه لأول مرة استدعت تدخل ساركوزي الذي أمر بمشاهدته، دعانا نحلم بأنه كان سينال أرفع جوائز ''كان'' الدولية، غير أنه خرج منها بخفي حنين... لأمر في نفس '' لوكا''.. أسئلة كثيرة قد تثار حول هذه المسألة، خصوصا وأن جل من تابع الفيلم أكد نجاحه تقنيا، بغض النظر عن السيناريو والأحداث التاريخية التي أغضبت كثيرا مسؤولي وحكام فرنسا، من اليمين المتطرف الذي ما أراد لهذا الفيلم ''المزعج'' أن يرى النور ليعيد إثارة تاريخ فرنسا الدامي..، في حين فتحت نفس الجهات، أبواب الوصال والترحاب ونال من الجوائز أرفعها فيلم ''رجال وآلهة'' عن سيناريو إيتيان كومار، الذي كشف قبل انطلاق مهرجان ''كان'' لصحيفة الفيغارو أن أهمية الفيلم تكمن وبصفة غير بريئة في كشف لغز الطرف الحقيقي الذي يقف وراء العملية الإرهابية، في قضية رهبان تبحيرين، قصة ومضت، سلط كومار عليها الأضواء لمحاولة التأكيد على أن رهبان تبحيرين ''ملائكة الحرمان'' على أرض الجزائر، أو هكذا يفهم من كلامه وتعليقاته، فيلم لمن يقرأه ما بين السطور، يرى أنه يسعى إلى الرفع بالدرجة الأولى من قيمة وأهمية الرهبان المغتالين، ما يفتح المجال واسعا أمام إمكانية سعي كومار ومخرجه كزافيي بوفوا إلى فرض منطق ''التبشير المسيحي''، شئنا أم أبينا على أرضنا الطيبة... وهو ما زاد من رضا لجنة تحكيم ''كان'' دون شك. بعيدا عن ذلك، قيل أن فيلم بوشارب ما ترك شيئا إلا وألحقه، ديكور يتزامن والحقبة التاريخية التي جاءت فيها قصة الفيلم، اكسسوارات وملابس الممثلين المنتقاة بصرامة وتأنيوتروي سليمين، سمح بإدخال المتتبع في قالب التاريخ رغما عنه، فضلا عن التمثيل الناجح الذي وقعه نخبة من الممثلين الجزائريين والمغاربة بنجاح، تجسيدا واقعيا ظهر خاليا من ''الشوائب''... لحد بعيد، وكيف لشافية بوذراع أن تخطأ في ذلك، وهي التي أبكت الجزائريين بدورها المتألق ''لالة عيني'' في الفيلم الرائع ''الحريق'' لمحمد ديب. إن كان كذلك فلما إذا حرمت إدارة المهرجان ولجنة حكام ''الكان'' بوشارب من جائزة واحدة، ألهذه الدرجة أثرت السياسة في الفن، حتى لم يعد الواحد قادرا على التفريق بين الصالح والطالح، الفائز بالسعفة الذهبية من مهرجان ''كان'' السينمائي الثالث والستين، فيلم تايلاندي ''العم بونمي يتذكر حيواته السابقة'' ويبدو جليا أن فرنسا من خلال تكريمها للتايلانديين سعت جاهدة إلى تقريب وتحسين علاقاتها بمحيط الدول الآسياوية وهذا ما أقره وزيرها للخارجية بصريح العبارة، عندما كشف عن سعي فرنسا إلى إنجاح جل علاقاتها مع الدول الآسيوية النشطة في المجال التجاري والاقتصادي والتي ما فتئت تغزو بلدان الحوض المتوسط، وحتى الاتحاد الأوروبي بحد ذاته. فرنسا التي ما كانت لتضيع فرصة ذهبية كهذه، دغدغت مشاعر التايلانديين، إحدى بلدان التنين ذوي الرؤوس السبعة، البلد الآسياوي الفعال والفاعل، القادر على تحطيم اقتصادات بلدان أوروبية عديدة...، وغير بعيد عن تايلاندا فإن ساركوزي الذي زار منذ فترة قصيرة دولة الصين، أكد أن ''الصين أصبحت لاعبا فاعلا لا يمكن تجاوزه على الإطلاق على الساحة الدولية''، وموضحا أن العالم ''في حاجة إلى الصين وما جاورها، لمواجهة التحديات الكبرى للقرن الحادي والعشرينصص.. اعترافات رئيس فرنسا ''المتفاخرة بنفسها''، دليل قاطع على أن عوالم الفن ما عادت قادرة على مجابهة طيش السياسيين... فمرغ أنف السينما في قذارة الساسة والسياسة... الأكيد دون أدنى شك منا، أن بوشارب الذي عرف كيف يغير قرارات الحكومة الفرنسية بفضل فيلمه السابق'' انديجان''، استطاع هذه المرة كيف يفضح ألاعيب لوبيات فرنسا المتطرفة، الداعمة لسينما ''احتقار الآخر''، والإطاحة بأعماله إن صح وفكر في تقديم الواقع بواقعية، ولأن بوشارب فضح جرائم فرنسا الاستعمارية فإن ذاك الذي كانت تتخوف منه تلك اللوبيات الضاغطة، ومن ثم صح لنا القول أن ''الخارجون عن القانون'' خرج متفوقا رغما عن الرافضين، لأنه أجبر أطرافا كثيرة على التحرك ضده، وإذا هي فعلت ذلك فلأن الفيلم كان باختصار ''ناجحا'' بكل المقاييس، بل وكان مخيفا زعزع كيان ذات الجهات بالذات. الحقيقة أن ما حدث من تهميش واستصغار لعمل الجزائري رشيد بوشارب لم يكن صدفة، لكنه كان فعلا مجهزا له مع سبق الإصرار والترصد، ولم يقع بوشارب وحده ضحية تصفيات سياسية ايديولوجية مفضوحة، فقد سبقه لذلك المخرج الأمريكي جيمس كامرون، الذي حرم منذ بضعة أشهر من نيل أرفع جوائز ''الأوسكار''، لا لشيء .. سوى لأن فيلمه ''أفاتار'' الذي لقي إعجاب الجمهور دوليا، لم ينل رضا طبقة سياسية حاكمة، تريد إحكام قبضتها ليس فقط على السياسة والسياسيين، ولكن أيضا على الفن والسينما وعالم المثقفين... هكذا هي إذا عوالم وكواليس أرفع التظاهرات السينمائية المنظمة في البلدان الغربية ''كان''، ''اوسكار''، ''بافطا'' وغيرها... لا تشهد بكلمة الحق، ما لم يلق مضمون الرسائل الموجهة رغباتها وسياساتها، وما لم يسقط عن النزاهة بما كان. لم يكن شيئا ليخفى على الجميع، أن الفيلم ''الممتاز'' لبوشارب ما كان ليرى النور لولا تمويل فرنسا الداعم، الذي تلاه دعم جزائري، ليجعل منه الفيلم المشترك الجزائري الفرنسي، الأكثر نيلا لانتقادات الساسة الفرنسيين بحكم طبيعة القصة المختارة، والتي تعيد للواجهة ذكريات أليمة، لواقع العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ سنوات الاستعمار.. فيلم لو اعترفت به لجنة التحكيم، لكان تصريحا ضمنيا بأن فرنسا ''آسفة'' و''معتذرة'' عما فات، الأمر الذي لم يحدث البتة، ما يؤكد أن فرنسا راضية على حالها في جميع الأحوال مقرة لأفعالها الدنيئة واللاإنسانية، والتي تسعى إلى تمجيدها، بفرض منطق قانون'' 23 فيفري ''، شئنا أم أبينا، قبلنا أم رفضنا، ب ''السيف ولا بالسماطة'' كما يقال، غير أن جميع محاولات العزف على أنغام العلاقات الحسنة بين البلدين صار أمرا مفروغا منه، مكشوفا، مفضوحا، واقتنعنا أن مجرد فيلم سينمائي، يروي قصة خيالية، ما كان ليزيد أو ينقص في الأمور شيئا، لأن الأمر مفروغ منه... تماما.