وسط حي شعبي وفي جحر قصديري لا يصلح حتى لتربية الحيوانات، يعيش 13 فردا، 11 منهم مختلون عقليا. شباب وأطفال من الجنسين في غرفتين صغيرتين لأب معدم لا يتجاوز دخل تقاعده الحد الأدنى للأجر القاعدي ، مأساة لا يمكن أن يتصور عقل أنها تحدث على بعد كيلومترات فقط من العاصمة في بلدية الكاليتوس تحديدا، حيث اقتفت ''الحوار'' أثر هذه العائلة في محاولة منها لإسماع صرختها للمجتمع لإبراز معاناتها التي استمرت لأكثر من 30 سنة أمام صمت مطبق من السلطات وكأن العائلة لا تنتمي إلى البشر. جحر يضم 11 فردا مختلا عقليا وحيوانات بعيون دامعة وصوت متقطع روى عمي بوسعد مأساته مع أبناء شاء القدر أن يولدوا ليعيشوا على هامش المجتمع والحياة بصفة عامة.. لم يدخلوا مدرسة ولم يقاسموا أبناء الحي فرحة اللعب ولم يحظوا حتى بملابس لائقة تقيهم حر الصيف وبرودة الشتاء. هي مأساة لا تكفي الحروف للتعبير عنها فمغادرتنا البيت لم تكن كافية لمحو تلك الصورة المحزنة لعائلة أنهكها الاختلال العقلي والفقر المدقع الذي تعيشه كل يوم، ولا يمكن لمن دخل هذا المكان أن يطلق عليه اسم البيت فهو لا يتوفر على أدنى شروط المعيشة حيث يتكون من حجرتين لا تصلحان حتى لتربية الحيوانات، كما قال عمي بوسعد، ولا ندري أين هي مصالح البلدية وجمعيات المنطقة وكيف لها أن تغفل عن مأساة بهذا الحجم، ولولا رأفة الجيران بهذه الأسرة المعدمة لما استطاعت أن تروي مأساتها ولا أن يسمع أحد بوجودها. يقول عمي بوسعد إن تقاعده لا يكفي لسد رمق أبنائه أو علاجهم وتسديد أجرة الحفرة التي يعيشون فيها خاصة أنه المعيل الوحيد للعائلة رفقة زوجتين إحداهما تعاني هي الأخرى من خلل عقلي وأبنائه الأحد عشر الذين يبلغ أكبرهم 32 سنة وأصغرهم 14 سنة. وعن طبيعة الخلل الذهني الذي يعاني منه أبناؤه أكد عمي بوسعد أن الأمر وراثي حيث يتعرض أبناؤه الى انتكاسة مرضية واضطراب عقلي ما أن يصلوا إلى سن الرابعة أو السادسة من العمر، وقبل هذه السن يكونون بصحة جيدة على غرار باقي الاطفال. ولم يفهم عمي بوسعد سبب تعرض أبنائه لهذا الخلل وكل ما قيل له من قبل الأطباء إن المرض وراثي ولا يمكن تفادي حدوثه ولا معالجته نهائيا. أردنا أن نصل إلى بيت قيل إن أبناؤه السبعة مصابون بتخلف ذهني، لكننا تفاجأنا عند ولوجنا الى البيت الصغير الأشبه بالجحر في منطقة أولاد الحاج بالكاليتوس بالعاصمة، أن البيت يحوي بين جدرانه معاناة أفظع وأشد قسوة مما تداولته ألسنة الجيران في هذا الحي الشعبي. فعائلة السيد بوسعد حمزاوي ذي الستين عاما لم تكن كغيرها من العائلات، بيت قصديري به غرفتان يقتسمهما 13 فردا 11 فردا منهم مصابون بتخلف عقلي، بالإضافة الى مجموعة من الحيوانات خروف وبعض الدجاجات التي ملأ ضجيجها البيت وأب متقاعد لا يتجاوز دخله الستة آلاف دينار جزائري لا تكفي، كما قال، للكهرباء والغاز ولا لسداد أجرة هذا البيت الذي لا يصلح حتى لتربية الحيوانات. لم يكن عثورنا على بيت عمي بوسعد أمرا صعبا فالمكان يعرفه جميع سكان الحي، وقد كنا برفقة محرز شاب جامعي من المنطقة الذي أراد أن يوصل معاناة هذه العائلة الى المحسنين والمسؤولين علهم يساعدونهم بلقمة كريمة تقيهم ذل التسول وهم في هذه الحالة الصحية والاجتماعية المزرية. وما أن دخلنا إلى البيت رفقة الوالد استقبلتنا الطفلة حنان بابتسامة عريضة لم تستطع أن تخفي وراءها معاناة عائلتها من المرض والفقر المدقع الذي تعيش فيه، طلبت منا حنان ان نلتقط صورا لها رفقة أخيها الأكبر منها سنا، حيث كانت منشغلة بترتيب ساحة بيتهم. لم نكن نعتقد ولو لوهلة أنه وبالقرب من العاصمة توجد عائلة جزائرية تعيش هذه المأساة الكبيرة، فالبيت الذي يحوي أطفالا مختلين عقليا وشبابا لم يغادروا البيت منذ أكثر من 20 سنة مضت، لا يمكن لإنسان عادي أن يعيش فيه لدقائق محدودة ولا يمكن لبشر أن يتحمل الرائحة الكريهة المنبعثة من زواياه الضيقة فجميع الأبناء المصابين بتخلف عقلي يتقاسمون الغرفتين وساحة البيت مع مجموعة من الحيوانات وكثير من الخردة والملابس البالية والأكياس البلاستيكية التي تغطي مساحة كبيرة من ساحة المنزل وتعيق الحركة بشكل كبير. 20 سنة من حياة الأسرة في غرفة مظلمة عمر، مروان، حنان، حكيمة ووليد وغيرهم أطفال ومراهقون إخوة لم يتذوقوا طعم الحياة، وجدوا أنفسهم بحكم مرضهم العقلي يتقاسمون مساحة صغيرة جدا في بيت فقير لا معيل لهم سوى أب تجاوز الستين من العمر لم يعد قادرا على العمل كما كان سابقا لم يكونوا خلال حديثهم معنا عنيفين ولا عدوانيين بل كانوا في غاية الهدوء يبتسمون لآلة التصوير وكأنهم يحاولون أن ينقلوا صورة ما للمجتمع، صورة عن معاناة استمرت لأكثر من 30 سنة فمنهم كما هو حال عمرو وحكيمة لم يغادرا باب الغرفة المظلمة منذ أكثر من 20 سنة، يرفضان رفضا قاطعا، كما حدثنا والدهما، الخروج من الغرفة إلا نادرا، أما الى الشارع فذلك مستحيل بالنسبة لهما، فلا يمكن لهما أن يتركا الغرفة رغم محاولات الأب إخراجهما قليلا من البيئة لتغيير الجو وحتى نحن لم نتمكن من الاقتراب منهما نظرا للرائحة الكريهة التي كانت تنبعث من باب الغرفة التي جعلها المرض سجنا اختياريا لعمر وحكيمة، حيث يمضيان الوقت في المشي والجلوس في أرجاء الغرفة التي لا تتعدى مساحتها المتبقية جراء الخردة المتراكمة داخلها المترين، وهو ما جعلنا نقف على معاناة أخرى تولدت عن المعاناة الكبرى التي لا يمكن بأي حال من الأحوال لشيخ تجاوز الستين عاما أن يتحملها بمفرده. الطفل ''حمزة'' اليد اليمنى لوالده أما حمزة فرغم إعاقته الذهنية إلا أنه يقضي يومه في تجميع الأكياس البلاستيكية والعلب وغيرها من الخردوات وتكديسها في زوايا الغرفتين ربما يقوم بعدها ببيعها، لكن حجم الخردة والأكياس التي كانت موجودة في زوايا الغرف لا تنبئ أبدا بأن صاحبها سيتخلص منها قريبا. وما وقفنا عليه خلال زيارتنا لعائلة حمزاوي جزء بسيط من معاناة استمرت لسنوات طويلة بعيدا عن أعين المسؤولين، فلا يعقل في هذا الزمن وفي بلد مسلم، أن تعيش عائلة حياة بدائية بائسة إلى هذه الدرجة التي لا يمكن أن يتصورها عقل على الإطلاق. حمزة ذو الخامسة عشرة من العمر الذي يساعد والده رغم إعاقته على جمع قارورات البلاستيك والخردة الحديدية التي يعيد الوالد بيعها مقابل مبالغ مالية تساعده على سد رمق أبنائه، حدثنا رغم إعاقته وصعوبة النطق التي يعاني منها انه يقوم كل صباح بالتوجه الى السوق الأسبوعي أو الى مناطق تواجد المصانع في منطقة مفتاح والكاليتوس، حيث يقوم بجمع النفايات التي ترمى هناك وتكديسها في أكياس ثم يرجع الى البيت رفقة والده ويقومان بترتيبها وتكدسيها بمساعدة والدته، ليقوم الوالد في وقت لاحق ببيعها الى تجار المواد البلاستيكية الذين يقصدونه من أجل ذلك ويبدو أنه حتى هذه الحرفة لم تكن كافية لسد رمق احتياجات عائلة كاملة تحتاج الى الدواء والأكل واللباس، وحتى حمزة الصغير الذي لم تغادر الابتسامة شفتيه كان يتساءل في كل مرة نتحدث اليه عن هويتنا وهل بإمكاننا مساعدة والده على تأمين لقمة العيش والدواء له ولإخوته، في صورة أراد أن يوصلها للمجتمع ككل علها تجد صدى لدى أصحاب القلوب الرحيمة وأن تلقى التفاتة المسؤولين علها تخرج 13 فردا من جحيم الفقر والتخلف العقلي الذي يعصف بهم جميعا في صمت منذ أكثر من 30 سنة مضت. مزابل المنطقة تفتش يوميا لسد الرمق ملأت الأكياس البلاستيكية وقطع الحديد بيت عائلة عمي بوسعد الذي، وكما قيل لنا، يسترزق بجمعها وإعادة بيعها. لكن المثير للانتباه أن حجم هذه الخردة كبير جدا لدرجة أنها تعيق حتى أبناءه المعاقين عن المشي بسهولة والتحرك داخل البيت، أما عمي بوسعد فأكد أنه يجمع هذه الأكياس والعلب البلاستيكية رفقة أبنائه المرضى الذين يستطيعون الخروج إلى الشارع، حيث يتوجهون الى المزابل التي يتخلص فيها المواطنون وبعض المصانع الخاصة بالمنطقة من مخلفات منازلهم ومصانعهم، ويقومون بالبحث عن المواد البلاستيكية والحديدية لإعادة بيعها وتحصيل لقمة العيش، وهو ما ذكره عمي بوسعد حيث برر عمله هذا بعدم قدرته على إطعام 13 فردا بمفرده لا يعملون وينتظرون فقط من يمدهم بالأكل والدواء والملبس، وحتى إعانات المحسنين والجيران لا يمكنها أن تفي بالغرض. فالعائلة بحاجة يوميا الى من يأخذ بيدهم وهي الحقيقة التي وقفنا عليها من خلال زيارتنا للعائلة، فلا يمكن لفردين مهما كانت صحتهم جيدة أن يتحملا خدمة ورعاية 11 فردا مختلا عقليا يتوجب إطعامهم وتنظيفهم وحراستهم يوميا خشية إضرامهم النار في الغرفتين أو إيذاء أنفسهم بأشياء أخرى خطيرة، وهي الانشغالات التي ذكرتها السيدة حمزاوي التي قالت إن ألمهما يزداد كل يوم وهي ترى فلذات أكبادها يعانون دون أن يلتفت إليهم أحد من المسؤولين، حيث لم يستفيدوا من مسكن محترم يخرجهم من الجحر الذي يستأجرونه منذ زمن طويل، ولا من منحة المعاقين الذي ستضمن لهم على الأقل العيش حياة كريمة كبقية المواطنين. والمثير للشفقة أن كل القواميس لا تكفي، وإن اجتمعت، للتعبير عن معاناة أسرة السيد حمزاوي بوسعد، هذا المواطن البسيط الذي لم يكن أبدا اسما على مسمى كما يشاع عن الأسماء، بل ما رأته أعيننا داخل حجرات بيته الضيق لم تكن لتدل على السعد ولو بالقليل منه، والمصيبة أن مأساة هذه العائلة لا تكرر إلا نادرا ولا يصدقها إلا من رأى معاناتها عن قرب وعاش تفاصيلها المحزنة. س. ح