يجب أن نقسوا على من نرحم'' هذه العبارة كثيرا ما كان يخاطبنا بها أحد أساتذتنا في الجامعة، وكان يقصد من ورائها بعض الطلبة الذين يرون في تصرفات الأستاذ الصارمة المتعلقة بالنقطة والتكليف بالبحوث والأعمال العلمية قسوة وظلما منه، إذ أنه ما كان يمنح ولو ربع نقطة مجانية لأنه كان يعد ذلك مخادعة وغشا للطالب نفسه، خاصة إذا كان من الغائبين الذين لا يهتمون بالدروس والمحاضرات التي تلقى، ثم يأتون في نهاية الفصل أو السنة ليحصلوا على مطبوعات جاهزة يراجعون منها الدروس، وما علموا أن أسئلة الامتحان ربما كانت متعلقة بالمناقشات والشروح التي تدور بين الأستاذ والطلبة على هامش الدروس وبالتالي فإن مكان تسجيلها هو ذاكرة من حضر وليس المطبوعة. لقد تذكرت هذه العبارة وتلك الأيام، وأنا أنظر بعين التأمل إلى كثرة الصفعات الإلهية التي يتلقاها البشر في حياتهم لعلهم يفيقون من غفلتهم وغيهم، وهي صفعات رحمة للمسلمين وصفعات عذاب للكافرين، فمن كان قلبه حيا أحس بألم الصفعة وراجع نفسه بعدها وعلم أنها صفعة تنبيه، فيعود إلى رشده ويؤوب إلى ربه ويصلح من حاله، ومن كان قلبه ميتا لم تزده الصفعة إلا تماديا في الغي والظلم لنفسه، لأنه لا إحساس له ولا شعور بفوائد هذه الصفعات، ومن هنا نفهم كيف يمكن أن تكون الصفعة الواحدة رحمة للبعض وعذابا للآخرين. خذ مجموعة من الشباب اللاهي يلعبون معا ويمرحون معا ويعصون أوامر الملك الديان معا، يكونون في يوم من الأيام على متن سيارة، وجهتهم مكان للعبث أو موطن للرذيلة، ينطلق سائقهم بالسيارة ويضع قرص الغناء الفاحش داخل المسجل، فتنطلق النغمات والكلمات الفاسدة المفسدة، ثم يزيد من حجم الصوت ومعه يزيد من سرعة السيارة، وبينما هم في قمة النشوة والحبور، ينسى السائق نفسه ويحسب أنه يسير في فضاء واسع لوحده، وفجأة يرمق سيارة تسير أمامه فيتذمر الجميع من وجودها على الطريق فيصيحون بصوت واحد ''هيا تجاوزها'' حتى لا تؤخرنا عن موعدنا، ولا يتوانى السائق الشاب لحظة بل يخرج مباشرة إلى الجانب الآخر من الطريق لتجاوز السيارة المزعجة، وما يكاد يخرج حتى تقابله شاحنة من الوزن الثقيل فتقع الصفعة ولا راد لها، ومن حسن حظ هؤلاء الشباب أنها لم تكن صفعة نهائية تخرجهم من مسرح الأحداث وميدان السباق وإلا لكانوا على خطر عظيم، ولذلك فكل من رأى السيارة بعد الحادث قال أنه يستحيل أن يكون أصحابها أحياء، ولكن يد الرحمة الإلهية التي وجهت لهم هذه الصفعة قالت: يستحيل أن يكون هؤلاء أموات، لأن ما حدث لهم ما هو إلا صفعة تنبيه وقد أتت أكلها بعد حين، لأن نجاتهم من الموت أعطتهم حياتا أخرى ذات نكهة إيمانية ينبعث منها أريج التوبة والندم والإصرار على عدم العودة إلى الغي والغفلة. هذه صفعة من صفعات الرحمة وما أكثرها وما أجملها وأنفعها من صفعات، وما أكثر الذين يتلقونها لو كانوا يعقلون وكنا, هي صفعات رحمة تصيبنا في أنفسنا أو في أبنائنا أو في أموالنا...في جوانب حياتنا كلها. ألم تعزم يوما على المعصية أو الظلم لنفسك، فتأتي الصفعة الإلهية لتصيبك بالزكام والحمى وتقعدك في الفراش أسبوعا كاملا، إذا كان هذا حالك ، فانظر إلى من أقعدته هذه الصفعة على الكرسي المتحرك فيما بقي من حياته واعلم أنك ربما كنت مكانه، وكنا. كم من مرة نعزم على المعصية وظلم النفس، فتسبقنا صفعة الرحمة وتشغلنا بتجهيز حبيب إلى القبر، أو معالجة مريض حبيب إلى القلب، أو ضرب أخماس في أسداس لضياع مال أو خسارته، أو تعطل سيارة أو غيرها من الموانع التي ظاهرها العذاب وباطنها فيه الرحمة. اللهم اجعلنا من أهل صفعات الرحمة ولا تجعلنا من أهل صفعات العذاب.