مما شاع في أيام الثورة الفرنسية شعار يقول : ''أخطر الناس على الدنيا رجلان: رجل سياسة لم يتدين، ورجل دين لم يخلص..''. فرجل السياسة الذي يرى أن مهمته هي فن ممارسة الكذب بأسلوب مقبول.. يغري الجماهير الغفيرة بالحياة الكريمة، ويوهمها بالإصلاح العاجل، في حين هو يقودها إلى المهالك.. وهي ترمقه بإعجاب، وتصفق له بحرارة، وتعتقد أن الخلاص على يديه .... كما أن رجل الدين الذي يظن الناس فيه الصفاء و النقاء، وهو همزة الوصل بين الأرض و السماء.. نظرته أمر، وكلامه وحي، وأمره دين، وطاعته واجبة... ولكنه إذا غشّ الناس واستغلّ عواطفهم، واستخفّ بعقولهم، وطمع في الذي بين أيديهم.. ثم تأوّل النصوص، ولوى أعناقها، وحشد الأدلة والحجج، واصطاد الشواهد النادرة ليؤيد مذهبه، ويرجّح كفّته، ويلقى عند أسياده الرضا والقبول.. فإنه يصبح مبعث فتنة قاتلة، ودمار شامل، يأتي على الدين والدنيا معا!. استحضرت هذه المعاني وأنا أسمع أن بعض الشيوخ في بلادنا العربية يرون أن لا طائل من وراء حشد ''أساطيل الحرية '' لفك الحصار عن غزة الصامدة ، وحجتهم أن الأموال التي تُجمع، و السلع التي تُشترى، و السفن التي تُجهّز هي صيد سمين لقراصنة البحر من القوات الإسرائيلية، لذلك لا يجوز جمع هذه الأموال فهي من باب الإسراف والتبذير ! بما أن مآلها معروف !!. وقديما قالت العرب: ''في المأزق ينكشف لؤم الطباع، وفي الفتنة تنكشف أصالة الرأي، وفي الحكم ينكشف زيف الأخلاق، وفي المال تنكشف دعوى الورع، وفي الجاه ينكشف كرم الأصل، وفي الشدة ينكشف صدق الأخوة ..س. وللأسف فإن أمتنا في هذا الزمن الكالح، والشدة الجاثمة، تواجه أعداء مكرة مهرة، ولكن بنماذج رديئة من المشايخ الذين يملأون الدنيا ضجيجا بالوعظ السمج، والدرس البارد، والفقه المريض، ولكنهم بارعون في تغذية السُلط الحاكمة في مجتمعاتهم (بسيروم) يطيل أجلها، ويطول معها ليل الظلم والقهر والجبروت ... وقد ازداد بغضي لهذه العصابة من الكهنة وأنا أقرأ تصريحا لأحدهم يقول: ''إن حركة حماس في قطاع غزة هي المسؤولة عن المذابح التي ترتكبها إسرائيل..''، وقال بالحرف الواحد: ''ولا ينبغي أن يأخذنا الحماس والانفعال غير الشرعي، ولا نتخيّل أن بإمكاننا أن نفعل لهم شيئا، (هنروح فين، ونعمل إيه) ...!! ز ومن نكد الدنيا أن هذا الشيخ يتصدر قناة فضائية، وله فيها برنامج ثابت، يُطل فيه على الناس بلحية تسدُّ عين الشمس!، وتوهم العوام بأنه مبعوث العناية الإلهية..!، وفي حوار له مع قناة أخرى سمعته يقول: ''سافرت إلى إحدى البلاد الأوربية، واستقبلني الإخوة في المطار، وقال لي أحدهم جئت لاستقبالك لأرى أول مرة في حياتي ''رجلا أسدا ''!. وقرأت أن هذا الشيخ نفسه طلب من المصور في الاستديو الفاخر أن يقرب الكاميرا من وجهه، وقال له: ''حتى يطلع وجهي امنوّرس!!. وشيخ آخر يصف معارضي السلطة في بلده بالآثمين، وأعداء الرئيس بأعداء الله..!، ولكنه يصمت كصمت المقابر عندما تُزوّر صناديق الانتخاب ، وتؤوّل آيات الكتاب، ويخادع البشر أجمعين بدين تخضع له المجتمعات بحكم عاطفتها الدينية المتأججة، وتضعف أمام العمِّة مع اختلاف شكلها مشرقا ومغربا . إن هناك خطوطا حمراء لا يجوز لهؤلاء المشايخ أن يتجاوزوها حتى لا يقذف بهم خارج أسوار النعيم...!، فالصمت عندهم حكمة، و الخوض في موضوعات عامة رجراجة بعيدا عن ''المحظور'' من الحنكة والكياسة والرشد وسد الذرائع والحفاظ على مكاسب الدعوة وتسكينا للفتنة التي لعن الله موقظها ..! ففي يوم الجمعة الغاضب عندما اهتز العالم لمذبحة ''أسطول الحرية'' صليت الجمعة في مسجد جامع، فإذا بالشيخ الخطيب يحدثنا عن أهمية الشجرة، والحفاظ عليها..!، ثم صليت الجمعة التي بعدها في نفس المسجد فإذا خطيب آخر يحدثنا عن الرقية الشرعية..!، وعجبت لحديثه وهو يصرخ بأعلى صوته في غير موطن الصراخ ، ويخفضه في غير موضع الخفض.. وتتلمظ شفتاه ، ويشدد على مخارج الحروف، وأقام الدنيا ولم يقعدها عن ''الرقاة'' الذين يأكلون أموال الناس بالباطل... وشممت من حديثه أنه يمارس هذه المهنة، وله في هذا الميدان من ينافسه فيه، لذلك راح يحمل على منافسيه بسيف الآية والحديث، ليخلوا له المجال، ويستفرد وحده بالمال، ويُبعد السامعين عن قضاياهم الراهنة، وأوضاعهم البائسة..!، فلا يخرجون في مسيرة، ولا يحتجّون في مظاهرة، ولا يتجمعون في ميدان ..!. و الغريب أن شيخا يرأس هيئة دينية عليا في بلده اعتبر أن المظاهرات من أجل فلسطين ''استنكار غوغائي، إذ أن علماء النفس وصفوا جمهور المظاهرات بمن لا عقل بهس . وتعجب عندما تسمع هذا وأمثاله يتحدث ويخطب وهو يحسب أن السلف أجداده الأقربون، ويحسب أن الاقتداء بهم في كل شيء هو الصواب كله. و التاريخ يشهد أن أولئك السلف انتصر بهم الدين، وتقدمت بهم الدنيا، وقدّموا نفوسهم رخيصة في سبيل الله، فهزموا الباطل، وتركوا أصحابه يتلمسون المهارب في المشارق والمغارب .. إن الكثرة من هؤلاء الأدعياء مصاب بضحالة الثقافة، وسقام الفطرة، وقسوة الطبع، وطلب الدنيا، وتهيُّب الظالمين ..ولن يرجى منهم خير أو نفع إلا أن يقولوا قولا سديدا ، أو يخرسوا إلى الأبد !!. و التاريخ الإسلامي علّمنا أن صحوة المسلمين وقيادتهم يقودها العلماء المخلصون، والمشايخ الربانيون، الذين يعرفون ما معنى أن يبيت الإنسان شبعانا وجاره جائع، فما بالك بشعب كامل يتضور جوعا من ألم الحصار، وقهر الحديد والنار ...؟!. وإذا كنا على أبواب نهضة إسلامية حقّة فينبغي أن نكنس ميدان التوجيه من هؤلاء، وندلّ الجماهير الغافلة على لؤمهم، وخسة طبعهم، لأن أمثالهم قرة عين لأعداء الإسلام، فوطأتهم شديدة على أبناء أمتهم، وبلادتهم أشدَّ اتجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم، وتنكيس أعلامهم، وهتك مقدساتهم .. وكم خدعوا بالدين أقوامًا طِوال دهرٍ ليس بالقصير.. ؟