كثيرون من العرب لا يدركون بأن الديمقراطية مجموعة من القيم يستحيل أن تصبح نظاما؟ وأكبر كذبة هي مصطلح الأنظمة الديمقراطية. فلربما حاولت هذه الدولة أو تلك تقمص والتلبس بشعار موجود على الورق فقط أو ربما أخذت مساحة منه لا غير، فأصل الديمقراطية هو أصل الإنسان ثم تأتي الجماعات ثم التنظيمات وصولا إلى الأنظمة التي تؤمن بالتداول على السلطة. لازلنا نحفظ مفهوم الديمقراطية عن أنها حكم الشعب، لكن ولا مرة طرحنا سؤالا بأن أصل الأشخاص الذين يحكموننا هم صفوة الشعب هذا وخيرته، وأن النظام الكريزماتي هو أصل الحكاية عندنا، ونقول بصفوة الشعب تيمنا بأنهم كانوا ولا زالوا معيارا للفصل بين تطلعات شعوبهم وبين خياراتهم الفردية، لذلك ففي الوطن العربي لم تفصل المفاهيم بل ظلت مخلوطة. بين الجزئي والكلي ومن هنا ضاعت آلاف الممارسات المحقة العقلانية والعدالة الاجتماعية، وفصل الدين عن الدولة، والحداثة كمفهوم جوهري، وساد بالمقابل التمويه والتمظهر والتمركز على أساس واحد ووحيد هو أن العصبة لازالت تعشعش في ذهنيات التفكير. ومادامت العصبية سيدة الرؤى والثقل الذي يحول دون خروج التطلعات التقدمية ومحاولات الإقلاع، فإن كل خطوة تظل تكرر نفسها حتى تتعفن الأوضاع... ونخرج بخلاصة مفيدة هنا هي الديمقراطية والعصبية خطان لا يلتقيان إلى يوم الدين. العصبية العربية حاربها النبي الكريم، ثم شرحها وشخصها ابن خلدون، ثم كثرت وتعددت الدراسات حولها إلى غاية أن توسع مستوى الشرخ بين النخب والشعوب حتى لا تحول بين العقول الشعوب، وبقيت هذه الأخيرة أسيرة أفكار الدهماء؟ وبمعنى آخر ... فأنت لا محالة سوف تصطدم بنظام ثابت القيم والاستشرافات ولك خيار الرحيل أو التدجين القسري. ما حدث في تونس أو مصر هو تحصيل حاصل، لأن التاريخ لا يرحم، فالثورات الداخلية بمفهوم كيميائي هي مجموعة من الأجسام اللصيقة بالجسم إما تبدده أو تجدده، ... وهذا لا يعني بأن كل ما يحدث هو من مؤشرات التحول الديمقراطي أو الانعتاق نحوه، بل كل ما في الأمر هو تنفيس وسخط على الأوضاع. وحتى لا نخرج عن موضوعنا، أقول بأن الحديث عن الديمقراطية هو نوع من الظلم والتجني اللامقبول في حق الإنسان العربي الذي تربى وترعرع وسط قيم هي بعيدة كل البعد عن القيم الغربية. فلماذا يزيد أن نصبح مقلدين لهذا الغرب؟ الديمقراطية كمفهوم أنتلجسني لا يمكن زرعه في أرض مليئة بالأشواك والفتن والطوائف. وحتى في الغرب نفسه هناك أنظمة وحكومات تبتعد قدر الإمكان عن صحبه الديمقراطية كفلسفة أغريقية شبيهة بجمهورية أفلاطون التي رسمها في خياله... لذلك فإن محاولة الإتيان بالديمقراطية نحو أرض الواقع هي لأجل اغتيالها، والأصح هو تركها في المتحف ولرجالتها وعائلاتها الذين يستحقون العناية بها ورعايتها مثل الشجرة الخالدة والنبتة العطرة. ويقال شعبيا بأن المجتمعات العربية لا تستحق الديمقراطية وليست في مستواها الحالي وكذا وكذا، وكلها إشارات مغلوطة لأن قوام قيمنا مبني على قناعات أخرى مغايرة تماما عما جاءت به ودعت إليه ثقافة وقيم الأوربيين، أولها رؤيتهم للإنسان والعالم والآخر والطبيعة والدين وغيرها من الأطر من هنا تبلورت لديهم زبدة المفاهيم المشتركة التي جاءت كبديل عن الحياة البدائية... لذلك فالديمقراطية ارتبطت بالإنسان والمجتمع أكثر من ارتباطها بالسياسة، عندنا نحن يحدث العكس ننظر دوما للديمقراطية بالمنظار السياسي المناسباتي، ولو نظرنا إليها مرة أو اثنتين بمنظار إنساني أو اجتماعي خلاق لحدث انقلاب وفزع غربيين في تصوراتنا وقناعتنا. نعم المفاهيم الديمقراطية لو تم استنساخها عندنا لسوف نغتال اغتيال الطائر المهجر عنوة دون تخيير بل تجبيرا وانتحالا لتقليد غير ملائم لطبيعة الأشياء. لكن ثمة سؤال واحد ووحيد متى يتم تحقيق فعل ديمقراطي حقيقي وصائب في أوطاننا؟، والإجابة الوحيدة تتخلص فيها يلي وهي يوم تصبح أنظمتنا الآمرة الناهية أول الداعين لها والممارسين لها وأن يصبح الإنسان العربي ممتلكا لكل مجالات الوعي والإدراك وإلا فدعوه مخدرا ينام ويصحو.