هذا رجل لا يكفي للحديث عنه مقالة ولا رسالة، لأن له في كل مظهر من مظاهر الحياة في الشام اليوم أثرا، وفي كل ناحية من نواحي الإصلاح عملا، ولأنه باعث نهضة، وكان معلم جيل. هل هلال النهضة العربية في بلاد الشام، ومن الشام (ساحله وداخله)، انبعثت أنوارها حتى ملأت دنيا العرب فكانت نهضة عربية إسلامية، حفزت العرب إلى الزهو بمجد آبائهم، والعمل على إعادة ذلك المجد. تسلحوا لها بالعلم، وكان الشيخ من أوائل من رغب فيه، ودفع إليه. وعادوا إلى اللغة الفصحى والبيان العربي، وكان في مقدمة من أعاد الناس إلى الفصحى وجلا لهم وجه البيان، وبنوها على الهمم الشم والعزائم الرواسخ، وكان من السابقين إلى تثبيت هذه العزائم، وإعلاء تلك الهمم، وهو الذي تخرج به الصفوة المختارة من رجال الرعيل الأول، في العلم وفي الأدب وفي السياسة. ولم آسف على فوات لقائي برجل من رجال هذا العصر، كما أسفت على أني لم ألق الشيخ طاهرا الجزائري، وأن كل حظي من قربه أني شيعت (رحمه الله) جنازته. ولكن قرأت الكثير عنه ورويت الكثير من أخباره عن أقرب الناس إليه.، أستاذي محمد كرد علي رحهما الله وخالي محب الدين الخطيب، ولقد عرفت رجالا، وسمعت برجال كانوا أعلم علما، وكانون آدب أدبا، وكانوا أكتب، وكانوا أخطب، وكانوا أعظم جاها، وأضخم اسما، وأبعد ذكرا من الشيخ طاهر، ولكن للشيخ طاهر مزية. لم يكن مثلها (فيما أعلم) لواحد منهم -اللهم- إلا جمال الدين الأفغاني، الذي كان صوته أول صوت أهاب بالقافلة النائمة ن تستيقظ وتعاود المسير- وسرا في نشأته وفي خلقه، هو أنه كان يترك أثرا من الخير أينما حل، فكان مجلسه حيثما جلس مدرسة، ولقاؤه أينما لقيته درس، يعلمك مسألة، أو يرشدك إلى كتاب، أو يلقنك خلقا من أخلاق الخير، وكان يعلم بفعله لا بقوله، دعا إلى النظر في الكتب، فلم يكد يدع كتابا لم ينظر فيه، ودعا إلى التأليف فكان له من التواليف ما عده من مكثري المصنفين، ودعا إلى حفظ الوقت، فلم يكن يضيع من وقته لحظة في عمل غير نافع، ودعا إلى ترك هذه المجاملات والرجوع إلى أخلاق المسلمين الأولين، من الصراحة والصدق، وقصد الحقائق وترك الأباطيل، فكانت حياته كلها كذلك. وكاد ييأس المصلحون، ولكن الشيخ لم ييأس، ولم ير مستحيلا إيقاظ هؤلاء العرب، الذين ناموا دهورا طوالا تحت أغطية الجهل والعامية والخمول، ولم يسلك طريق الطفرة، فالطفرة لا تأتي بخير، ولا الثورة، فالثورة تبيد ولا تشيد، بل عمد إلى إزالة أسباب الداء، وإلى الترغيب في العلم، والحث عليه ليحارب الجهل، ورد الناس إلى اللغة، وتعريفهم فضلها، ليدفع العامية، ونشر أخبار السلف، وتاريخ الفتوح، لينفي الخمول. وكان يعطي كلا ما يناسبه، كالطبيب الذي يحمل دواءه الشافي، ويدور على المرضى، فلا يعطي إلا بمقدار، ولا يداوي إلا عن بينة من المرض، يجمع حول طائفة من أعلام الشباب، هم صفوة خلطائه وعيون مريديه، فيصرح لهم الرأي، ويبين لهم الطريق، وطائفة من الشيوخ يعرض لهم تعريضا، ويمهد لهم تمهيدا، وطائفة من الفتيان ينشئهم على برنامجه، ويسيرهم من حيث لا يشعرون في طريقه، وطائفة من العامة يقنع منهم بتقويم الأخلاق، وإصلاح المجتمع، وكان يجالس الموظفين الكبار والباشوات الأتراك، يأمل أن ينال منهم خيرا، وقد نال منهم في الحقيقة خيرا كثيرا. كانت الكتب المخطوطة متفرقة في المساجد والزوايا، يخشى عليها الضياع، ويخاف التلف، فعمل على جمعها في مدرسة الملك الظاهر (التاريخية) في دمشق، فقام عليه الجاهلون من أصحاب النظر القصير أعداء كل إصلاح، وقالوا (شرط الواقف)، فاستعان عليهم بصديقه الوالي حمدي باشا، ولولا صداقته إياه لضاعت هذه الكتب، ولم تنشأ دار الكتب الظاهرية التي نعدها اليوم من مفاخر الشام. وكان التعليم في دمشق: الكتاتيب للصغار، وحلقات المساجد للكبار، فكان من أكبر العاملين على افتتاح المدارس العصرية، ووضع بذور (المعارف) في سورية، والغريب أنه قد افتتح مدارس للبنات من تلك الأيام، وأن الناس قد أقبلوا عليها، ولدى عمتي التي تعيش معنا إلى اليوم، شهادة عليها خاتم الشيخ طاهر تاريخها سنة 1031 ه. ولولا صلته برجال الحكم من الأتراك ما كانت المدارس. وكان في طرف مقبرة الباب الصغير تل، لا يمسي مساء كل يوم، حتى يستحيل إلى ساحة حرب، يقتتل فيه أهل الميدان وأهل الشاغور، بالحجارة والعصي، عصبية جاهلة كان لها في بلاد العرب كلها أمثال: فمثل (الزكرتيكات) في الشام (الفتوات) في مصر، و(القبضايات) في لبنان و(أبو جاسم لر) في العراق. وعلم الشيخ (وكان من أعلم الناس بخطط دمشق) أن تحت هذا التل مدافن نفر من آل البيت، فسعى حتى أزال التل، وأبرز القبور، وآخى بذلك بين الحيين، وإن كان قد فتح بذلك بابا جديدا للبدع المنكرة من حيث لا يريد. (يتبع)