وروعت عائشة الصدمة وشدهتها، ولم تستطع التصبر، ونسيت كل شيء إلا ابنتها، وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها، ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل، قالت فيها قصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، وأثر طول البكاء في عينيها؛ فلم تعد تبصر، ثم ألهمها الله الصبر بعد سبع سنين، وشفي بصرها، ولكنها لم تنس هذه النكبة أبدا، وهاكم أبياتا من قصيدة واحدة لها لا أعرف في الشعر العربي أحد منها حسا. ولا أظهر عاطفة ولا أبلغ في إثارة الأسى، وهي في هذا -لا في جودة السبك وروعة البيان- تفوق ما قالت الخنساء في أخيها، وما قال ابن الرومي في ابنه، وتفوق قصيدة التهامي المشهورة في ولده. بدأت القصيدة تصف روعة الخطب ولوعة الحزن فقالت: إن سال من غرب العيون بحور فالدهر باغ والزمان غدور فلكل عين حق مدرار الدما ولكل قلب لوعة وثبور ستر السنا وتحجبت شمس الضحى وتغيبت بعد الشروق بدور ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى وغدت بقلبي جذوة وسعير يا ليته لما نوى عهد النوى وافى العيون من الظلام نذير ثم أخذت تصف كيف بدأ بها المرض في رمضان سحرا، لما ألم بها على شبابها وصغرها، ولما أصبحوا جاءوا بالطبيب فكتب لها الدواء وبشرها بالشفاء: طافت بشهر الصوم كاسات الردى سحرا وأكواب الدموع تدور فتناولت منها ابنتي فتغيرت وجنات خد شانها التغيير فذوت أزاهير الحياة بروضها وانقد منها مائس ونضير لبست ثياب السقم في صغر وقد ذاقت شراب الموت وهو مرير جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا إن الطبيب بطبه مغرور وصف التجرع وهو يزعم أنه بالبرء من كل السقام بشير واسمعوا كيف استبشرت الفتاة بدواء الطبيب، وسألته التعجيل بشفائها لأجل شبابها، بل من أجل والدتها التي حرمت على نفسها طيب المنام: فتنفست للحزن قائلة له عجل ببرئي حيث أنت خبير وارحم شبابي إن والدتي غدت ثكلى يشير لها الجوى وتشير وارأف بعين حرمت طيب الكرى تشكو السهاد وفي الجفون فتور وأمسكوا الآن بقلوبكم لا يصدعها الحزن، وبعيونكم لا يقرحها البكاء، واسمعوا هذا المقطع الذي بلغت فيه الشاعرة الذروة، وسبقت فيه كل من قال مرثية عاطفية. اسمعوا البنت وقد رأت عجز الطبيب فداخل قلبها اليأس وتصورت الموت وانطلقت تودع أمها: لما رأت يأس الطبيب وعجزه قالت ودمع المقلتين غزير أماه قد كل الطبيب وفاتني مما أؤمل في الحياة نصير لو جاء عراف اليمامة يبتغي يرثي لرد الطرف وهو حسير يا روع روحي حلها نزع الضنى عما قليل ورقها ستطير أماه قد عز اللقاء وفي غد سترين نعشي كالعروس يسير وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي هو منزلي وله الجموع تصير قولي لرب اللحد رفقا بابنتي جاءت عروسا ساقها التقدير وتجلدي بإزاء لحدي برهة فتراك روح راغها المقدور أماه قد سلفت لنا أمنية يا حسنها لو ساقها التيسير كانت كأحلام مضت وتخلفت مذ بان يوم البين وهو عسير وتصوروا الأم وهي تعود إلى الدار فلا تلقى ابنتها، وترى جهاز العرس ما زال باقيا، ولكن العروس قد أودعت حفرة باردة، وأهيل عليها التراب، ويرن في أذنها صوت هذه العروس تقول لها وهي تعالج جذب الموت: عودي إلى ربع خلا ومآثر قد خلفت عني لها تأثير صوني جهاز العرس تذكارا فلي قد كان منه إبى الزفاف سرور جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا لبس السواد ونفذ المسطور والقبر صار لغصن قدي روضة ريحانها عند المزار زهور أماه لا تنسي بحق بنوتي قبري لئلا يحزن المقبور وهاكم جواب الأم: فأجبتها والدمع يحبس منطقي والدهر من بعد الجوار يجور بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي قد زال صفو شأنه التكدير لا توصي ثكلى قد أذاب فؤادها حزن عليك وحسرة وزفير فسما بغض نواظري وتلهفي مذ غاب إنسان وفارق نور وبقبلتي ثغرا تقضى نحبه فحرمت طيب شذاه وهو عطير والله لا أسلو التلاوة والدعا ما غردت فوق الغصون طيور كلا ولا أنسى زفير توجعي والقد منك لدى الثرى مدثور إني ألفت الحزن حتى أنني لو غاب عني ساءني التأخير قد كنت لا أرضى التباعد برهة كيف التصبر والبعاد دهور أبكيك حتى نلتقي في جنة برياض خلد زينتها الحور يا أيها القراء.. أرأيتم كيف نسيتم مصائبكم وبكيتم لمصاب هذه الفتاة التي ماتت من ثمانين سنة؟! هذه عظمة الشعر رحمة الله على هذه الشاعرة التي لم يظهر بعدها مثلها.