لم تكن فكرة التنقل إلى الأراضي الليبية بالأمر السهل، خاصة بعد سقوط قتلى وجرحى، تضاربت الأرقام حول عددهم، على يد أفراد الكتائب الأمنية للعقيد معمر القذافي. غير أنني قررت الدخول إلى ليبيا، بعد ربط اتصال بأطباء متطوعين وأعضاء منظمات إغاثة، على غرار أطباء بلا حدود، كانوا بدورهم يقصدون ليبيا عن طريق الحدود البرية مع تونس، حيث وقفنا على مشاهد أذهلتنا لأكثر من 40 ألف شخص من كل الجنسيات، عرب جزائريين ومغاربة ومصريين وخليجيين، وأوروبيين وكوريين، وحتى ليبيين، كلهم فروا من عمليات التقتيل والحرب التي قالوا إنها بوادر حرب أهلية. بعد وصولنا إلى تونس العاصمة، أول أمس، كان في انتظاري الطبيب جبريل السالمي العوادي وإيريك فرانسوا القادمين من سويسرا، وتنقلنا بعدها إلى عدد من أحياء العاصمة تونس لمعاينة بعض نقاط جمع التبرعات من المواد الطبية الجراحية والأغطية والمؤونة، لننتقل فيما بعد إلى المعابر الحدودية برأس جدير والذهيبة وبن فردان، بواسطة شاحنات لمتطوعين تجار ورجال أعمال. مراكز لجمع المساعدات وليبيون يعودون إلى ديارهم لقتال القذافي ذهبنا إلى شارع محمد الخامس، حيث قابلنا الدكتور حسين، القائم بالأعمال في القنصلية الليبية، حتى نقوم بإجراءات التأشيرة، إلا أنه أخبرنا بأن ''المعبر الحدودي في رأس جدير تسيطر عليه مجموعات أمنية موالية للعقيد معمر القذافي، وفيه خطر كبير عليكم إذا مررتم من هناك، لأنكم محسوبون على الثوار الذين قدموا لكم التأشيرة، خاصة أن السفارة الليبية في تونس تبرأت من أعمال التقتيل التي تحدث في حق الأبرياء من المدنيين الليبيين على يد كتائب الإرهاب التابعة للقذافي''، يضيف المتحدث. في هذا الوقت، كان المئات من الليبيين، خارج مبنى القنصلية بشارع محمد الخامس، يتوافدون بكثرة على المقر، يريدون التسجيل والعودة إلى ديارهم، والبعض الآخر يبحث عن أخبار عائلاته في الطرف الآخر من الحدود. اختلفت ملامح وجوههم، إلا أنها اتفقت على شيء واحد، وهو ضرورة الإطاحة بالعقيد القذافي أو حتى قتله، لوقف حمام الدماء، يقول أحد الليبيين، يدعى الغرياني، كان ينادي بأعلى صوته: ''نريد الرجوع إلى ليبيا للاقتصاص من الطاغية، لقد قتلوا خمسة أفراد من عائلتي، في الوقت الذي أتواجد أنا في تونس، أقسم أننا لن نترك القذافي وحاشيته، سنبيدهم''، ليجهش بعدها بالبكاء، وتتعالى صيحات وهتافات ''الله أكبر، لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله''. بعدها يتدخل أحد الشباب أمام القنصلية وينادي بأعلى صوته: ''يا أحفاد المختار، هذا يومكم، وبلادكم استباحها الدكتاتور المعتوه، إخوانكم في نالوت ينتظرون من يستطيع حمل السلاح''. عشرات الآلاف من الفارين من الجحيم ومنظمات إغاثة تستغيث خلال تنقلنا بين نقاط جمع المساعدات الطبية والغذائية، في بعض المناطق التونسية، على غرار بنزرت والمهدية والعاصمة تونس، كان العشرات من المواطنين يقبلون من تلقاء أنفسهم لتقديم ما يستطيعون من مساعدات وأدوية ومواد غذائية، تجمع بعد ذلك في الخيم الموزعة في الأحياء الرئيسية بالمدن الكبيرة. ثم بعد ذلك يقوم أطباء مختصون مداومون في هذه النقاط بفرز الأدوية والمستلزمات الطبية وتصنيفها. وفي هذا الصدد، يقول منسق حملة جمع المساعدات للشعب الليبي، الدكتور كريم بن يوسف: ''لقد تطوع المئات من الأطباء وطلبة كليات الطب من جميع الجنسيات العربية والأوروبية، وهبوا هبة رجل واحد لتقديم ما يستطيعون تقديمه للفارين من جحيم حمام الدماء في الأراضي الليبية، التي يقودها الدكتاتور العقيد معمر القذافي''. ويضيف: ''أرسلنا منذ انطلاق جمع التبرعات القناطير من الأدوية ومستلزمات الجراحة، والتنسيق مع زملائنا من منظمات الإغاثة الدولية المتواجدين بمناطق الذهيبة ورأس جدير بن فردان، ونحن كل ليلة نرسل العشرات من شاحنات المتبرعين من المواطنين لإغاثة ما يزيد عن أربعين ألف فار ولاجئ إلى الأراضي التونسية''. وعن توقعاتهم حول ملف اللاجئين الفارين من جحيم الأحداث الدامية في ليبيا، قال المتحدث ل''الخبر'' إن ''الوضع خطير جدا على الحدود الليبية، لقد توافد عشرات الآلاف من الأجانب وحتى الليبيين على معبري رأس جدير والذهيبة في الجنوب، ونحن ننتظر ارتفاع عدد اللاجئين إلى ما يزيد عن المائة ألف لاجئ، لذلك نطالب كل منظمات الإغاثة الدولية والمحلية بالتدخل لمساعدتنا على التكفل بهم والحيلولة من انتشار الأمراض المعدية''، موضحا أنه ''تم تسجيل عدد من الجرحى جراء الطلقات النارية وحالتهم خطيرة جدا''، وناشد الجزائريين، أفرادا أو منظمات غير حكومية، المساعدة في توصيل المساعدات الطبية والغذائية إلى بن فردان، مشيرا إلى أنه تم إدخال كميات هامة من المؤونة والأدوية إلى مدينة نالوت الليبية، التي تبعد عن الأراضي التونسية بحوالي 30 كلم. مشاهد وقصص مروعة عن إرهاب القذافي غادرنا العاصمة التونسية، ليلة أمس، رفقة البعثة الطبية الأوروبية وبعض المتطوعين الأجانب، كان بينهم طلبة جزائريون يدرسون في كليات الطب بتونس، على غرار سراج الطاهر المنحدر من ولاية سطيف، وبوعبد الله سليم المنحدر من ولاية غليزان في غرب الجزائر. وقد أخبرني الطاهر عن سبب تواجده هنا، إنه يعمل في الإغاثة التطوعية و''قد قدمت اليوم بعدما بلغني إقدام الكثير من الأطباء والطلبة وحتى المثقفين على حملة من أجل جمع المساعدات والإشراف الميداني على إسعاف الجرحى في المدن الليبية الحدودية''. كما وجدنا لزهر الجاني، وهو جزائري تاجر يعمل بين الجزائروتونس، ينحدر من مدينة عين كرشة بأم البواقي، يشارك بماله ووسائله في نقل المؤونة إلى الحدود الليبية، يقول: ''لا يعقل أن نبقى نتفرج على ما يحدث لإخواننا من تقتيل جماعي ونهب لأموالهم، في الوقت الذي ننعم نحن بنعمة الأمن والهناء''. وأضاف قائلا: ''لقد هب كل الأحرار في هذه الحملة لمساعدة الشعب الليبي، من جزائريين وتونسيين وموريتانيين وحتى غير العرب والمسلمين من جنسيات أوروبية، فكيف نتأخر نحن كجزائريين''. الرحلة إلى ''رأس جدير'' استغرقت أكثر من سبع ساعات على مسافة 600 كلم، مررنا بالطريق السريع لصفاقس ومناطق قابس ومدنين، ثم الوصول إلى رأس جدير. كانت مشاهد الخيم المنصوبة في المنطقة الحدودية وكذا توافد المئات من الفارين من الأراضي الليبية باتجاه معابر حدود تونس، أمرا مذهلا بسبب الحالة التي كان عليها أغلب اللاجئين. البعض منهم، حسب ما رووه، تم تجريدهم من كل الأموال التي كانوا يحملونها، وقد تعرض عدد منهم للقتل والتصفية الجسدية من طرف أشخاص تجهل هويتهم. منظر الأطباء المتطوعين القادمين من العديد من الدول الأوروبية والعربية، كان الميزة الكبيرة في المنطقة، وأعلمني ''إيريك'' أن أكثر من 15 مستشفى ميدانيا تم إنشاؤها ومباشرة العمليات الجراحية للمصابين في المواجهات بين الثوار وكتائب الأمن الليبية. ويقول سالم أحمد السامرائي، أحد العراقيين الذي تمكن من الخروج، أول أمس، من مدينة زوارة باتجاه رأس جدير، ''الوضع ما وراء هذا المركز جد خطير، خاصة التنقل بين المدن وحتى القرى''. ويضيف: ''حتى وإن كانت بعض المدن محررة من طرف الثوار، على غرار مدينة نالوت، إلا أن الطرق المؤدية إليها غير آمنة بتاتا، حيث تنتشر دوريات للمرتزقة الأفارقة من التشاديين والنيجيريين وغيرهم من الموالين لنظام العقيد معمر القذافي''. لاجئ آخر من جنسية مصرية، ماهر عزة البحيري، قال في حديثه ل''الخبر'': ''ما يقع في ليبيا هو الكارثة بأتم معنى الكلمة، لقد جرد أغلب الأجانب من ممتلكاتهم، وتعرضوا حتى للقتل والنهب، أصبحوا الهدف الأسهل للمنحرفين في ليبيا، حيث لا ناصر لهم إلا الله، خاصة أن أولائك الموالين للنظام معمر القذافي قد استباحوا الدم والعرض والمال''. تنقلنا بعدها إلى مدينة الذهيبة التي تبعد عن مفترق الطرق بمنطقة ''مدنين'' وتيطاوين بحوالي 165 كلم، كانت نفس المشاهد تتكرر من توافد المئات، ولكن بحدة أقل من تلك المسجلة في رأس جدير. يخبرني الجزائري لزهر الجاني، أحد منسقي حملة جمع المساعدات للشعب الليبي: ''لقد بلغت مساعداتنا لإخواننا الليبيين في مدن نالوت والزاوية وزوارة، حيث تقدم الشاحنات الليبية في الليل في بعض المناطق غير المحروسة، وتتم تعبئتها بما جمعه إخوانهم من كل الجنسيات في تونس''. بعد هذه الأحداث، قررت رفقة الأطباء القادمين من سويسرا الدخول إلى الأراضي المحررة بالجنوب الغربي بليبيا، وبالضبط مدينة نالوت، في الوقت الذي حدثنا الفارون عن أنباء حول احتمال إصدار أمر من طرف العقيد معمر القذافي يقضي بقصف المدن والمناطق المحررة بالطائرات الحربية النفاثة، على غرار نالوت وأحياء بزوار والزاوية.