المعروف أن سلطة ضبط الصحافة المكتوبة في البلدان الديمقراطية هي مجلس الصحافة أو الإعلام من السويد والنرويج والدنمارك، إلى ألمانيا والنمسا وبريطانيا وهولندا، وحتى أمريكا التي يحظر فيها على الكونغرس إصدار تشريع يحد من حرية الصحافة. ومهمة الضبط تقوم بها هيئات كثيرة إدارية واقتصادية وتجارية، ويتولاها في قطاع الإعلام المكتوب عادة مجلس للصحافة. ويوجد في العالم أكثر من 50 مجلسا يقوم بمهمة الضبط، من بينها المجلس الأعلى للإعلام في الجزائر كسلطة ضابطة، فلماذا يتم الاستغناء عن تسمية ''المجلس الأعلى للإعلام'' المتعارف عليها عالميا لصالح ''سلطة ضبط الصحافة المكتوبة''؟ هل هي الحساسية المفرطة لرموز مرحلة سياسية من المراحل السابقة من التاريخ السياسي للجزائر، أم هو اجتهاد مندرج في إطار خالف تعرف؟ وإذا ما تجاوزنا التسمية وتمعنا في الصلاحيات التي كانت ممنوحة للمجلس الأعلى للإعلام، مقارنة بالمهام المسندة ''لسلطة ضبط الصحافة المكتوبة'' في مشروع القانون العضوي للإعلام المجاز من قبل مجلس الوزراء، نجد أن أحكامه غير مضبوطة، أو مضبوطة خطأ، وهذا يتضح مما يلي: تم حذف فقرتين متعلقتين بأهم الصلاحيات الممنوحة لمجالس الصحافة في البلدان الديمقراطية، والتي كان مجلسنا يتمتع بها، ويتعلق الأمر ب: إبداء الرأي في النزاعات المتعلقة بحرية التعبير والتفكير التي تقع بين مديري الأجهزة الإعلامية ومساعديهم قصد التحكيم بالتراضي. ممارسة صلاحيات المصالحة بطلب من المعنيين في حالات النزاع المتعلقة بحرية التعبير وحق المواطنين في الإعلام، وذلك قبل قيام أحد الطرفين المتنازعين بأي إجراء أمام الجهات القضائية الخاصة. وقد تعرضت لهذا في مقال صادر بنفس الجريدة بعنوان ''المجلس الأعلى للإعلام: سلطة ضبط أم سلطة انضباط''؟ بالقول ''أرى أنه من الأفضل جعل اللجوء إليه وجوبا وليس بطلب من المعنيين، وأن تتشكل لجنة الشكاوى على مستوى المجلس مثلما هو الشأن بالنسبة للمجلس البريطاني التي يرأسها رئيس المجلس، وأن تكون قراراته نافذة وواجبة النشر في الصحيفة المعنية بالنزاع. إن تولي المجلس النظر في النزاعات والشكاوى أولا، يجعل اللجوء إلى المحاكم محدودا، ويقلل من متاعب أهل مهنة المتاعب، ويوفر لهم وقتا ثمينا يهدر في التنقل بين المحاكم، ومالا يصرفونه أتعابا أو يدفعونه غرامة. ولأنه يمارس التحكيم بين أهل المهنة، وبينهم وبين من يتضررون من كتاباتهم وأقوالهم، فأرى أنه لابد أن يكون رئيس المجلس الذي يعيّنه رئيس الجمهورية من أعضاء المحكمة العليا، أو قاض متقاعد مثلما هو الشأن بالنسبة للعديد من المجالس التي تتمتع بمصداقية عالية نتيجة لتركيبتها البشرية ونوعية هذه التركيبة''. لكن الذين أعدوا المشروع رأوا غير هذا، وفضلوا ''مرمطة'' مسؤولي النشر والصحافيين في المحاكم. وأتوقف بداية عند تشكيلة ''سلطة ضبط الصحافة المكتوية'' التي أصبح عدد أعضائها 14 بالتساوي بين المعينين والمنتخبين، بينما كان العدد 12 وبالتساوي كذلك. وما يهمنا هنا ليس العدد، فهو أكثر بكثير في مجلس الصحافة البريطاني الذي يضم 25 عضوا يمثلون الصحافة فقط، بل إن 10 من أعضاء المجلس الذين أصبحوا 30 بموجب تعديل 1973 يمثلون الجمهور، كما أن أعضاء مجلس الصحافة الألماني ال 20 يمثلون الناشرين والصحافيين بالتساوي، بمعنى أن مجالس الصحافة ليس للسلطة تمثيل فيها، بل دخلها ممثلون للجمهور باعتبار الحق في حرية الرأي والتعبير حق للمواطن أساسا. وقد حرص المعدون للمشروع على وضع ميكانيزمات شل سلطة الضبط في أي وقت يريدون مثلما هو الشأن مع الثلث الرئاسي في مجلس الأمة، حيث نصت المادة 108 على أن مداولات سلطة ضبط الصحافة المكتوبة لا تصح إلا إذا حضرها اثنا عشر عضوا، وهذا الشرط لا نجده في أي قانون لأية هيئة أو مؤسسة! وألغي حق المجلس الأعلى للإعلام في إحداث لجان متخصصة تحت سلطته لاسيما: لجنة التنظيم المهني ولجنة أخلاقيات المهنة كما نزعت من سلطة ضبط الصحافة المكتوبة مهمة منح البطاقة الوطنية للصحافي، بعد أن كان المجلس الأعلى للإعلام هو الذي يمنحها وقد منحها فعلا للصحافيين المحترفين سنة ,1991 وأسندت إلى لجنة مجهولة تحدد تشكيلتها وتنظيمها وسيرها عن طريق التنظيم، وغالب الظن وبعضه إثم وليس كله أنها ستكون أمنية في ظل هذا التوجه السائر نحو التقييد بدلا من الانفتاح أكثر على ما يشهده العالم من انفجار في وسائل الإعلام والاتصال، وحتى في الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير. وبعد أن كان المجلس الأعلى للإعلام بإمكانه ''أن يعرض على الحكومة مشاريع النصوص التي تدخل في مجال نشاطه'' وهذه من صميم اختصاصات مجالس الصحافة، فهي تقترح وتمثل المهنة أثناء دراسة مشاريع قوانين لها تأثير على وجود ومسؤوليات الصحافة، بل إن المجلس البريطاني لا يقدم اقتراحات وتوصيات إلى الحكومة البريطانية فحسب بل يقدمها كذلك إلى حكومات البلدان الأخرى ومنظمات الأممالمتحدة، والمنظمات الصحفية في العالم، غير أن سلطة ضبط الصحافة عندنا لم يعد بإمكانها ذلك مع حكومة بلدها، بعد إلغاء هذه المادة. وتم توسيع طلب الرأي المتعلق بمجال اختصاص سلطة الضبط إلى كل هيئة تابعة للدولة بعد أن كانت مقتصرة على رئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس الحكومة وبالتالي تحويله إلى ما يشبه مركز الدراسات، وإرهاقه وإغراقه فيما يفيد وما لا يفيد. وبعد أن كان قانون 90/07 يخول المجلس الأعلى للإعلام حق مقاضاة الهيئة المعنية إذا لم تراع أحكام هذا القانون، ولا يقصد بذلك الصحف فحسب، لأنها ليست الوحيدة المعنية بتطبيق قانون الإعلام، نزعت منه هذه المهمة، ومنحت المادة 100 من المشروع الجديد إلى سلطة ضبط الصحافة المكتوبة حق سحب اعتماد النشرية في حالة عدم احترام القانون العضوي وبصفة العموم، بمعنى أنه إذا لم تمتنع الصحيفة مثلا عن نشر صور أو أقوال غير أخلاقية أو مستفزة لمشاعر المواطن، أو عن النميمة، أو عن المساس بطرق مباشرة أو غير مباشرة بالحياة الخاصة للشخصية العمومية، التي قد تكون ''شامبيط'' أو مغني من الدرجة العاشرة، أو ممثل فاشل أو لاعب كرة يحق لسلطة الضبط سحب اعتماد النشرية! ما أود قوله في النهاية أن هناك مآخذ كثيرة لم أتناولها، وأرى أن قانون 90/07 أحسن بكثير من هذا المشروع صياغة ومضمونا، ولا يحتاج إلا لرتوشات تحيينه وتزيده عمقا وقبولا، وليس بالضرورة إصدار القانون العضوي للإعلام في هذه الدورة التشريعية، بل يحبذ إصداره بعد تعديل الدستور، وما أود التأكيد عليه هو أنني لا أدافع عن مستقبلي فهو ورائي، فقد هرمت وأنتم أهل الحل والعقد أكبر مني سنا، رجاء لا تصادروا حق الشباب في حرية الرأي والتعبير والنشر، لا تصادروا حريتهم في صنع مستقبلهم ومستقبل وطنهم الذي يحبونه مثلنا وربما أكثر.. [email protected]