قدّرت الجمعيات ومنظمات مقاولي البناء والأشغال العمومية، حاجة سوق الشغل في الجزائر بأكثر من 800 ألف عامل بناء، للاستجابة للطلب المتزايد على هذا النوع من العمال المهنيين في المشاريع الجاري إنجازها، خاصة المشاريع السكنية. عزوف الشباب زاد من تعقيد الوضعية رحلة البحث عن البنائين المتخصصين تقابل الحاجة للبنائين ندرة كبيرة في اليد العاملة المتخصصة في قطاع البناء. يضاف إليها عزوف الشباب على التكوين في هذا المجال. وكذا رفض البنائين العمل في الشركات بسبب الرواتب التي يتلقونها، واشتراط الشركات لشهادات تأهيل صادرة عن معاهد التكوين المهني في ملفاتهم الإدارية. وهو ما لا يتوفر عند الغالبية الساحقة لمحترفي هذه المهنة الشائعة في الأرياف والمدن الداخلية، لكنها صارت مطلوبة بكثرة في الحواضر الكبرى التي استفادت من مشاريع ضخمة خاصة في مجال السكن، وهو ما أفرز ظواهر اقتصادية واجتماعية جديدة. سبب الوضع من الجانب الاجتماعي نزوحا جديدا لفئات عمرية متنوعة من المواطنين الذكور الذين لا يملكون مؤهلات مهنية نحو المدن بحثا عن عمل. أما من الجانب الاقتصادي، فقد ظهرت شركات تحمل تسميات ''مقاولات بناء'' لكنها في واقع الأمر تؤدي دور مناولة لليد العاملة لفائدة شركات الترقية العقارية الفائزة بمشاريع إنجاز السكنات. وتؤدي هذه الشركات دورا ''إداريا'' فقط يتمثل في تمكين المرقّين والمقاولين من إيجاد المبررات القانونية للمصاريف التي ينفقونها في مجال اليد العاملة. وهو وضع اقتصادي معقد، حسب المختصين، بحكم أنه أدخل متعاملين افتراضيين في ميدان حساب كلفة المشاريع، دورهم بسيط وهو تبرير الضرائب. وذكر مصدر من الوكالة الوطنية للتشغيل في وهران، أنه لم يتم تسجيل أي طلب في فروعها من طرف الباحثين عن العمل في مهنة البناء خلال سنة ,2010 وهو نفس الأمر الملاحظ خلال السنة الجارية قبل نهايتها. في حين أن هذه الولاية تعد مئات المشاريع التي تتطلب اليد العاملة المتخصصة. وهي متوفرة بفعل النزوح المفروض على سكان عدد من الولايات، منها غليزان، الشلف، تيسمسيلت، وكذا ولايات منطقة القبائل التي صارت توفر لوهران وغيرها من ولايات غرب البلاد أعدادا معتبرة من البنائين الذين يختارون هذه المهنة بفعل إتقانهم لها بحكم الممارسة في ولاياتهم الأصلية. وكذا حاجتهم إلى مداخيل لم تعد تتوفر لهم في مناطقهم. ومن جهة أخرى، يلاحظ مقاولو البناء والأشغال العمومية، أن مراكز ومعاهد التكوين المهني لا تجتهد في ترغيب الشبان على تعلم هذه المهنة، التي من المفروض أنها تخضع لنظام التكوين الخارجي، حيث يتعلم المتربص تقنيات البناء في المعهد، ثم يتم توجيهه في فترة تربص إلى ورشات البناء، مع تكفل مديرية التكوين المهني بمنحته، ويتكفل رب العمل بالجزء الآخر في انتظار تخرجه بشهادة تأهيل مهني. ومما يزيد الشبان الجزائريين نفورا من هذه المهنة، معرفتهم بأن البنائين الذين استقدمتهم الشركات الأوروبية والأمريكية التي أشرفت على إنجاز عدد من المشاريع، بلغت رواتبهم الشهرية حدود 3 آلاف دولار، في حين أن البنّائين الجزائريين الذين اشتغلوا مع أولئك الأجانب لم تزد رواتبهم عن 30 ألف دينار جزائري في أحسن الأحوال وبعقود محدودة الأجل ودون تصريح لدى الضمان الاجتماعي. سرعة فائقة في الإنجاز ملغمة بالغش والتدليس البناء ''الشنوي'' مزج حيلته بالتحايل المحلي تشكّل في المدن الجزائرية التي فازت فيها الشركات الصينية بإنجاز مشاريع استقدمت لها عمالا من أقصى شرق آسيا، ''وسطاء'' يؤدون دور وكالات التشغيل، يبحثون عن الأشخاص الذين يحتاجون إلى بنائين ويختارونهم من بين الذين يكونون مستعجلين لإجراء ترميمات في منازلهم أو لإنهاء بناء سكناتهم الفردية، ويقترحون عليهم ''العمالة الصفراء''. فعلى خلاف بقية العمال، فإن البنائين الصينيين لا يعرفون معنى ''الراحة''. حيث يشتغلون في الورشات التي استقدموا من أجلها، وهي في الغالب مشاريع عمومية كبرى، يشتغلون فيها بنظام الدوام 3 / 8 ، ويغتنمون ساعات راحتهم للعمل في الورشات الخاصة التي يقترحها عليهم الوسطاء. ولقد انبهر الجزائريون ب''الشناوة''، منذ دخول العمالة الصينية إلى بلادنا، بفعل المدة التي استغرقوها لإنجاز العديد من المشاريع الضخمة، إضافة إلى الوداعة التي يتميزون بها، وكذا تأقلمهم مع الأوضاع في الجزائر. ويتميز البنّاء الصيني بالسرعة، كما أنه لا يكلف صاحب الورشة مصاريف إضافية كالنقل، الإطعام، وغيرها من المصاريف التي يجامل بها الجزائريون ''الماصويات'' ليتقنوا لهم العمل. وكان الجزائريون الذين استخدموا الصينيين يتباهون مع معارفهم بنوعية العمل الذي أنجزوه لهم، وخاصة بالسرعة ''الفائقة'' التي تخلصوا فيها من المعاناة مع الاسمنت والرمل والبلاط. وهي الظاهرة التي ضخمت شعبية عمال البناء الصينيين، الذين كادوا أن يحرموا البنّائين الجزائريين من لقمة العيش، حيث نافسوهم في عقر دارهم. لكن الذي حدث هو أن كل الذين جربوا تشغيل الصينيين، خرجوا بقناعة وهي أنه مثلما يتقن الصينيون ربح الوقت، فإنهم يتقنون أيضا أساليب الغش والتدليس. ويضطر الكثير منهم إلى اللجوء إلى البنّائين الجزائريين لإصلاح ما أفسده الصينيون، الذين مزجوا ''حيلتهم بالتحايل المحلي'' وتحولوا إلى خبراء في النفسية الجزائرية. البنّاؤون أكثر ضحايا حوادث العمل يعتبر عمال قطاع البناء في الجزائر من أكثر العمال تعرضا للحوادث المهنية، حيث لا يمر يوم دون أن تنشر وسائل الإعلام أخبارا عن سقوط عامل في ورشة بناء. وهي الحوادث التي إن لم تتسبب في الوفاة، فإنها تقعده نهائيا بفعل العاهة المستديمة التي تلحق به. ولا يشترط عمال البناء في الجزائر توفير ظروف العمل، خاصة الوسائل الأمنية، لأنهم مضطرون لقبول العمل مهما كانت مخاطره. ولا تحتاج الورشات المقامة في كل المدن الجزائر إلى عين خبير في الأمن والوقاية للتأكد أن العمل فيها يعرض الحرفي إلى خطر الموت. وتشهد الأقسام الاجتماعية للمحاكم الجزائرية أعدادا غير معلومة من القضايا التي رفعها عمال بناء تعرضوا إلى حوادث عمل في الورشات، ولم يكونوا مؤمّنين اجتماعيا. وفي كثير من الحالات يلجأ الضحية والمستخدم إلى حلول بالتراضي دون اللجوء إلى المحكمة، حيث يقبل ضحايا الحوادث بالتعويضات العينية التي قدمها لهم أصحاب الورشات، مقابل التنازل عن رفع دعاوى قضائية. بورتري البناء علي بغزو بخنشلة ''فقدت صحتي بعد 20 سنة من العمل'' أكد عمي علي بغزو الذي احترف مهنة البناء عبر عدة مواقع بولاية خنشلة أن هذه المهنة الشاقة ''تركته ربع إنسان''، فهو يعاني من أمراض كثيرة ومختلفة، خاصة تلك المتعلقة بالامراض الصدرية والمفاصل. ورغم هذا يقول عمي علي ''استفدت من هذه المهنة احترام الناس خاصة أولئك الذين أنجزت لهم سكنات''. ويروى عمي علي قصته مع البناء الذي دام 20 سنة، وعاش تجارب قاسية تارة وسعيدة تارة أخرى، فهو الآن من دون مهنة ويعيل عائلة، حيث أكد أن المهنة تحتاج إلى وقاية وتأمين، حتى يجد البناء بعد كبره ما يعيش منه ويعيل بها عائلته. مضيفا أن مهنة البناء شاقة ومتعبة ومنهكة للصحة، ولم يعد أي شخص قادر أن يمارسها، خاصة في الوقت الراهن الذي يغيب فيها الضمير، حيث صار البناؤون الحاليون يجرون وراء الخبز دون إتقان العمل، فانهارت سكنات على رؤوس قاطنيها، ليتحمل البناء مسؤولية الأرواح أمام الله. ولم يتردد عمي علي في تكرار المقولة التي يتداولها عامة الناس والمتمثلة في ''البناؤون ينجزون مشاريع بالملايير ولا يتحصلون إلا على الملاميم ويسكنون سكنات قابلة للترميم''، في إشارة إلى صعوبة حياتهم وقلة حيلتهم. أسواق عمال البناء مقاه شعبية يتخذها البناؤون كوكالة للتشغيل تملك كل مدينة في الجزائر، صغيرة أو كبيرة، سوقا محلية للعمل في مجال البناء، حيث يتخذ مواطنون من مختلف الأعمار من مواقع قريبة من مناطق التوسع الحضري، مقرات لهم يقصدونها في الصباح الباكر، محملين بأدواتهم ينتظرون رزقهم. في هذه المواقع، توجد في الغالب مقاه شعبية يتخذها البناؤون كوكالة للتشغيل. وهي المواقع التي يعرفها مقاولو المنطقة، الذين يرسلون إليها شاحنات يتكفل سائقوها باختيار العمال الذين يرغب فيهم صاحب الورشة وعددهم. ولا يتم أي تفاوض، بحكم أن الراتب اليومي لعامل البناء متعارف عليه ومحدد من طرف جميع المقاولين. ويعتبر العامل الذي فاز بمقعد في الشاحنة محظوظا لأنه ضمن دخل يومه. ويلاحظ على هذه ''الأسواق'' كثافة العرض طوال أيام السنة. مما يعطي انطباعا أن كل عمال البناء في الجزائر يوجدون في بطالة. وتبين هذه الأسواق ''المهنية'' أن مؤسسات وأجهزة الدولة تخلت بصفة كلية عن أصحاب هذه المهنة وتتركهم يتدبرون أمورهم وحدهم.