أجمعت مختلف الإحصائيات والدراسات المعدة من قبل المختصين والمشرفين على قطاع البناء والأشغال العمومية خلال السنة الماضية، على استفحال ظاهرة عدم التصريح بالعمال لدى الضمان الاجتماعي، إذ بينت الدراسة التي أعدها الديوان الوطني للإحصائيات في هذا الشأن أن نصف السكان الناشطين لم يستفيدوا من الضمان الاجتماعي خلال الثلاثي الرابع من ,2009 أي ما يمثل نسبة 50,4 بالمائة من مجموع السكان الناشطين 79,8 بالمائة منهم في قطاع البناء والأشغال العمومية. في حين نقلت أرقام أعدها الصندوق الوطني للعطل مدفوعة الأجر والبطالة الناجمة عن سوء الأحوال الجوية التابعة لقطاعات البناء والأشغال العمومية والري تسجيل 35,000 عامل غير مصرّح بهم سنويا في هذا القطاع، إذ هذا الرقم مرجح للارتفاع كل سنة. وما ساعد على تنامي تلك الظاهرة العديد من العمال والبنائين الذين يتنازلون إراديا عن حقهم في التأمين ويقبلون العمل وسط ظروف صعبة نظرا لبعض الامتيازات التي يتحصلون عليها من قبل المقاولين، وتأتي في مقدمتها الأجور المرتفعة مقارنة مع ضعف تلك المتحصل عليها في حالة التصريح بهم، وهذا بالرغم من خطورة المهنة بسبب عدم تقيد المقاولين بنظم وقوانين ضمان السلامة والأمن خلال العمل. عمال البناء يؤكدون: العمل دون تصريح أفضل من البطالة كما لم تردع الأرقام المقلقة حول الارتفاع الكبير لحوداث العمل وكذا التفشي المفزع لمختلف الأمراض المهنية في قطاع البناء والأشغال العمومية بنسب تفوق ال 25 و35 على التوالي، العديد من الشباب عن العمل داخل ورشات البناء الكبيرة دون أي ضمان أو حماية، هذا ما لمسته ''الجزائر نيوز'' خلال جولتها بعدد من ورشات إنشاء مختلف السكنات ذات الصيغة التساهمية أو الإيجارية وحتى في البناءات الفردية المنتشرة عبر أحياء العاصمة. وفي السياق ذاته، يقول مصطفى البالغ من العمر 25 سنة ''إن التنازل عن التصريح لدى الضمان الاجتماعي يعني ارتفاع الراتب اليومي إلى حدود 1600 دينار بدل 800 دينار، أما بالنسبة لسفيان يرى بأن المقاولات لا تلتزم بالتصريح الحقيقي بقيمة المبلغ الفعلي الذي يتقاضاه العامل مستشهدا بحالته قائلا، كنت أعمل في مقاولة بناء بولاية أم البواقي، حيث اكتشفت بعد أكثر من أربع سنوات من العمل بأن صاحب المقاولة قام بتأمينه بنصف المبلغ الذي كان يتقاضاه، الأمر الذي دفعه إلى مغادرة تلك المقاولة والبحث عن عمل آخر، لكن هذه المرة دون تأمين، مضيفا بأن الحوادث محتمل التعرّض لها هي قضاء وقدر. أما مجيد، رب عائلة، يرى بأن البناء البسيط لا يملك حق الاختيار بل هو مجبر على العمل مهما كانت الظروف وبأقل الأسعار، قائلا نحن البنائين الصغار لو تكلمنا عن حقنا نطرد مباشرة، وباعتباري رب أسرة والمتكفل الوحيد بتغطية نفقات أبنائي الثلاثة رفقة زوجتي ووالدتي، فأنا مجبر على العمل ولساعات طويلة مقابل أجر قليل ودون تأمين، ورغم من ذلك لا نسلم من انتقادات وغضب صاحب المقاولة. وقد لاحظت ''الجزائر نيوز'' خلال جولتها بعدد من مواقع البناء بأن أغلب البنائين هم في الحقيقة شباب تتراوح أعمارهم بين 17 و45 سنة قدِموا من ولايات مختلفة من الوطن إلى الجزائر العاصمة بحثا عن فرص عمل جديدة بسبب شح مناصب الشغل في مسقط رأسهم، حيث يكثر الطلب على البنائين القادمين من شرق البلاد بسبب إتقانهم وتفننهم في تجبيس السقف، ناهيك عن عملهم لأكثر من 10 ساعات متواصلة في اليوم، حسب ما يؤكده أحمد صاحب فيلا في الأبيار الذي أضاف بأنه غير ملزم بتأمين العمال الأربعة، لأن فترة عملهم عنده ستدوم ثلاثة أو خمسة أشهر فقط. التصريحات نفسها أدلى بها البناؤون الذين اعتبروا مسألة التصريح بهم لدى الجهات المختصة غير ضرورية ماداموا يتقاضون رواتبهم اليومية بانتظام، موضحين بأنهم غير مهتمين بمسألة قانونية نشاطهم باعتبارهم عمال متنقلين وغير مستقرين في مكان واحد. ويقابل هذا الوضع اكتساح اليد العاملة الأجنبية قطاع البناء سواء منها العاملة بطريقة شرعية ضمن مؤسسات إنجاز دولية حازت على صفقات بالجزائر أو العاملين بطريقة حرة أو حتى العاملين بطريقة غير شرعية ودون رخص، وهذا لتوفر فرص تشغيل بالجزائر في مجال البناء نتيجة نقص اليد العاملة المؤهلة المحلية، ولعل أكثر الجنسيات المطلوبة هي الصينية، لعدة أسباب أهمها كفاءاتهم العالية وكذا قبول العمل في جميع الظروف وبأقل المراتب حتى بطريقة غير قانونية ليصبحوا المنافس الأول للبنائين الجزائريين الذين يتذمرون منهم في كل مناسبة، بينما يوجد العديد من العمال الأجانب في قطاع البناء على غرار الماليين والأرجنتينيين والأنغوليين والمغاربة أغلبهم يمارسون نشاطهم بطريقة غير شرعية سيما المغاربة منهم الذين يفضّلون العمل بطريقة غير شرعية، وهم معروفون بإتقان مهن البناء خاصة الأشغال التزيينية كالبلاط والجبس. أكثر من مليوني عامل بنّاء غير مصرّح به تحمّل العديد من الجهات والجمعيات المقاولات وحتى الشركات الأجنبية الناشطة في قطاع البناء مسؤولية الأضرار التي تلحق بالبنائين نتيجة الحوادث والأمراض التي تصيبهم بسبب عدم توفيرها للظروف المناسبة لممارسة نشاطهم، ناهيك عن عدم قيامها بالتصريح بنصف عمالها الذين أغلبهم من البنائين الذين يجهلون حقوقهم، إذ تقدر أوساط جمعوية عدد العمال غير المصرح بهم في الجزائر بنحو 5 ملايين عامل في مختلف القطاعات، في حين يستحوذ قطاع البناء على نصفهم أي ما يعادل المليونين ونصف، حيث تبقى هذه الأرقام غير دقيقة وأرقام تقريبية في غياب إحصاء شامل حول العدد الحقيقي للبنائين في الجزائر. بالموازاة مع هذا، تؤكد في كل مناسبة وزارة العمل انخفاض سنوي في عدد العمال غير المصرّح بهم لدى الضمان الاجتماعي، إذ أكد لوح في تصريحات سابقة تراجع عدد العمال غير المصرح بهم لدى الضمان الاجتماعي، حسب المعطيات الأخيرة، إلى القانون الجديد المتعلق بالمنازعات في مجال الضمان الاجتماعي الذي كان له أثر كبير في هذا الانخفاض، مقدرا نسبة العمال غير المصرح بهم ب 14. وفي سياق متصل، يتساءل أيضا العديد من المتتبعين والجمعيات عن سبب صمت الدولة إزاء هذا الوضع وكذا إعادة منح المقاولات التي يثبت عدم احترامها لقانون مشاريع جديدة بدل معاقبتها، إذ ترى الجهات ذاتها بأن الدولة تشجع بطريقة غير مباشرة المقاولات على مواصلة مثل تلك التصرفات بدل اتخاذ، في حقها، إجراءات ردعية، زيادة على وقف التعامل معها إلى حين تسوية وضعية عمالها وتحسين ظروف نشاطهم. السرطان، الربو والإعاقة تهدد عمال البناء من جهة أخرى، دقت مصلحة الوقاية من الأخطار المهنية بالصندوق الوطني الاجتماعي للأجراء ناقوس الخطر من تفشي الأمراض المهنية التي تودي بحياة 900 شخص سنويا، أكثر من نصفهم عاملين في قطاع البناء والأشغال العمومية، في حين يقدر عدد الأشخاص الذين يصابون بإعاقات جسدية في حوادث العمل بأكثر من 7 آلاف عامل سنويا، وتحمّل الجهات المعنية نفسها مسؤولية هذا الوضع القائم إلى العمال أنفسهم في قطاع البناء بسبب قبولهم وعدم احتجاجهم على الظروف التي يمارسون فيها نشاطهم وكذا عدم مطالبتهم بتحسينها أو اللجوء إلى الهيئات العمومية المنظمة لهذا القطاع على غرار الهيئة الوطنية للوقاية من الأخطار المهنية في أشغال البناء والأشغال العمومية وكذا المفتشية العامة. كما نقلت الأرقام نفسها إحصاء نحو تسعمائة حالة مرض مهني سنويا نصفها حالات صمم وسرطانات، حيث تأتي في صدارة تلك الأمراض سرطان غشاء الرئة الذي يصيب عمال قطاع البناء بالدرجة الأولى جرّاء استعمال الأميانت الأزرق الأكثر خطرا بطرق جافة دون مراعاة الشروط الأمنية، إضافة إلى الإصابة بالأمراض المتعلقة بالجهاز التنفسي على غرار الحساسية والربو نتيجة استعمال العديد من المواد في الوقت نفسه. مصالح مفتشية العمل تحرر مئات المخالفات وتحيل أكثر من نصفها إلى العدالة أكد مصدر بالمفتشية العامة بأن هذه الأخيرة تحرر يوميا مئات المخالفات ضد المقاولات الوطنية والأجنبية خلال خرجاتها الميدانية التفتيشية بسبب إقدامها على توظيف عمال دون التصريح بهم، مضيفا بأن المفتشية تقوم أولا بإرسال إعذارات للمقاولات المخالفة تمنحها من خلالها مهلة 10 أيام من أجل تسوية وضعيتها قبل إحالتها على العدالة، حيث كشف ف السياق ذاته بأن أكثر من نصف المخالفات المحررة تحوّل إلى المحكمة بسبب رفض أصحاب المقاولات تأمين عمالها وتحسين ظروف عملهم، مضيفا بأن عدم احترام القانون غير مقتصر فقط على المقاولات الوطنية بل حتى الشركات الأجنبية متورطة أيضا في تشغيل البنائين دون التصريح بهم لدى الضمان الاجتماعي، قائلا بأن مفتشية العمل حررت خلال السنة الماضية 3 275 محضر مخالفة ضد الشركات الأجنبية الناشطة في الجزائر جميعها أحليت إلى القضاء، مضيفا بأن المفتشية قامت بعمليات تفتيش شملت 756 شركة أجنبية من ضمن 4 413 زيارة ميدانية. بالمقابل، رفض المكلف بالإعلام بالاتحاد العام للمقاولين الجزائريين تقديم أي تعليق أو أي معلومات حول عدد المقاولات المتابعة قضائيا بتهمة توظيف عمال دون التصريح بهم، حيث تحجج بانشغاله في اجتماع مغلق مع مسؤوليه بالرغم من أننا تمكنا من الاتصال به عبر هاتفه النقال بعد أكثر من نصف ساعة من المحاولات بسبب انشغال خطه.