{وأبُونَا شَيْخٌ كَبيرٌ} آية قرآنية لها وقع قوي التأثير على النّفس، وترسم قِلّة ألفاظها صورة حيّة لوقار الشّيخوخة وأدب النُّبوة. وردت العبارة على لسان ابنتي نبي الله شعيب عليه السّلام في حوار جرى مع موسى عليه السّلام، فقد سألهما عن شأنهما وقد اعتزلتا المزاحمة على ماء مَدين. قال الله سبحانه وتعالى: {ولمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قَال ما خَطْبُكُمَا قَالتَا لا نَسقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرَّعَاءُ وأبُونَا شيْخٌ كبيرٌ} القصص: .23 إنّها صورة حيّة في مشهد عظيم فيه حركة، وفيه صوت، وترى في الصورة تزاحم جمع كبير من النّاس حول البئر، وانزواء امرأتين خلف هذا الجمع تدفعان ما معهما من النِّعم بعيداً عن مجال التزاحم، وشخصاً فتياً يرقُي الموقف، ثمّ يسعى لتقديم المساعدة للفتاتين، فسألهما عن حالهما، فتُجيبان في حياءٍ وأدب {لا نسقي حتّى يُصدِر الرِّعاءُ} أي ينفضَّ الجمع وينتهي الزحام، ثمّ علّلتَا لعدم وجود رجل معهما وقيامهما بهذا العمل بقولهما {وأَبُونا شيخٌ كبيرٌ} فهما تسعيان فيما يريح الأب الشيخ، وتتحمّلان هذه المشقّة عنه، وتصبران عن المزاحمة حتّى ينفضَّ الجمع. لقد أضفت الآية {وأبُونَا شيخٌ كبيرٌ} على المشهد الحيّ جلالاً وروعةً مع أدب البنتين وحيائِهما وحُسن تلطُّفِهما في الحوار، وقد صدرت معبّرة عن عاطفة المَحبَّة التي تقتضي الرّحمة والإشفاق والتّوقير، كما أنّها تعطي في هذا السياق المؤثّر والموقف الرّائع النّبيل تعطي إشعاعات متبادلة بين حقوق الشيخوخة واحترامها والإخلاص في الخِدمة للأب الوقور وأدب الفتوة المتمثل في خروج فتاتين من أكرم البيوت وأعزّها وأعلاها شأناً لإنجاز هذا العمل مع قوّة الشّخصية البادية من الأدب الجمّ وحُسن التربية والذّكاء. لقد ظلّلت هذا الحوار قيمٌ ساميةٌ ومروءةٌ سالمة من الأغراض الشخصية، مع أدب رفيع من طرفي الحوار، حيث أفضى هذا الحوار الّذي هيّأته الأقدار إلى ترابط البيتين الطاهرين بأوثق العُرى وأشرفها، فكان موسى عليه السّلام نِعمَ الزوج، وكانت بنت شعيب نِعم الزوجة، ونِعم العون على مشاق الطريق وتبعات الرِّسالة. إنّ الآية {وأبُونَا شيخ كبير} أنبأت عن عدم وجود أخ يمكنه أن يقوم بهذه المهمّة، فقد حملت هذه العبارة مع هذا التّعليل إيحاءات شريفة ودلالات نفسية وأخلاقية عظيمة وإنّ مصدر العواطف الشّريفة هو المحبَّة التي تقتضي الطاعة للمحبوب حسب المقام، وهي هنا الطاعة للوالد الشيخ الكبير، وللسببين فهو أحقُّ بالخِدمة والرعاية والشّفقة والوفاء له بحقوقه بقدر الجهد والطاقة، وإنّ من كان هذا خُلقه وذلك أدبُه فإنّ الأثر ينتقل إلى الحالات المشابهة ويتعدَّى مجال الوالد إلى كلّ مسن، فيرى فيه الشّخص المهذَّب صورة لأبيه تقتضي الاحترام والتّوقير والرِّعاية عند الحاجة.